الخيار الأفضل !

DSC_7075

جاء خبر قبول تعيينه في وظيفة مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه؛ مما جعل فرحته بهذا الخبر ناقصة، فالمشروع الذي يفكر فيه يتطلب منه أن ينتقل إلى أحد الدول المجاورة، وبذلك يكون من المستحيل عليه أن يقوم بفعل الأمرين معًا. أصبح الآن في مفترق طرق وعليه أن يختار، إما الوظيفة المرموقة، وإما المشروع الواعد الذي كان يخطط له مع أصدقاءه لفترة طويلة.

استشار الجميع بهذا الصدد ولكنه لم يحصل على ردٍ مقنع، فأحدهم يخبره بأن الوظيفة أفضل والآخر بأن المشروع أفضل، وكأن الجميع اتفقوا على أن تكون الحصيلة هي تساوي الأصوات، وبقي صوته وحيدًا، عالقًا في المنتصف. أرهقه التفكير على مدى عدة أيام، وتمنى لو أنه يستطيع استبصار المستقبل ومعرفة أي الخيارات ستكون نتائجها كما يرجو، حياة سعيدة وممتعة وناجحة. كان ينام ويستيقظ وهو حائر بين الخيارين، حينها قرر أن يرمي بالنرد، ويجعل أحدهم يختار نيابة عنه، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أعلم أنه من الجنون أن اطلب هذا ولكن أنا محتار بين خيارين، ابتسمت وقالت: إذا اختر الأول. ضحك وقال: ولكنني لم أخبرك ما هي الخيارات. ابتسمت وقالت: أليس الأول دائمًا أفضل؟ حينها أدرك أن هذه الفكرة ليست جيدة، فقبلها ومضى.

الخيار الأول دائمًا أفضل، بقيت تلك الفكرة تراوده طوال الوقت، حينها شعر بأنها إشارة من السماء بأن عليه أن يختار الوظيفة، وكان ذلك.

سافر أصدقاؤه، وانشغل هو بوظيفته الجديدة، أخذ يترقى في سلمه الوظيفي، حتى أصبح رئيسًا للقسم الذي تم تعيينه فيه بعد عشر سنوات، كانت تلك العشر سنوات صعبة ومرهقة بالنسبة له، الكثير من الاجتماعات والسفريات والعمل، لم يكن يلتقي بأحد، فلم يملك متسعًا للوقت ليكون علاقات خارج إطار العمل أو حتى أن يتواصل مع أحد سوى مجموعته التي باشرت المشروع والتي انقطع عنها بعد عدة سنوات.

جاءه اتصال في أحد الأيام، كان صديقه رامي يخبره بأنه في إجازة لزيارة الأهل وعاد معه أثنين من أصدقائه. سر جدًا بالخبر، واستطاع أن يوجد متسعًا من الزمن للقائهم، جلسوا في أحد المطاعم يتناولون الغداء والمشروبات، ويسرد كلًا منهم ما جرى في العشر سنوات الماضية، لم يستغرب كثيرًا من النجاح الذي بلغه المشروع ومدى توسعه، أخبره رامي بأنه قد تزوج وأنجب طفلين، وسأله عن حاله، كان سعد شارد الذهن، فقد كان يشعر ببعض الغبطة والغيرة، فكل ما جناه من عمله هو الكثير من التعب، حتى أنه لم يجد مساحة ليبحث عن شريكة حياة، لأنه لم يشعر بأنه يستطيع الاستقرار بعد. في ذلك المساء عاد حزينًا يفكر كيف كان حاله لو أنه اختار السفر مع أصدقائه.

استيقظ في اليوم التالي وقد جاء خبر قبول تعيينه في وظيف مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة، في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه، وبعد تفكير طويل في الأمر وحيرة وأمانيه بأن يستبصر المستقبل، قرر في النهاية أن يرمي بالنرد، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أنا محتار بين خيارين، ابتسمت وقالت: إذا اختر الثاني. ضحك وقال: ولكنني لم اخبرك ما هي الخيارات. ابتسمت وقالت: أليس الثاني دائمًا أفضل؟ حينها أدرك أن هذه الفكرة ليست جيدة، فقبّلها ومضى.

الخيار الثاني دائمًا أفضل، بقيت تلك الفكرة تراوده طوال الوقت، حينها شعر بأنها إشارة من السماء بأن عليه أن يختار السفر، وكان ذلك.

سافر مع اصدقاءه، واجهوا صعوبات كبيرة في تأسيس الشركة، ولكنهم استطاعوا أن ينجحوا في ذلك، كانت الفترة الأولى من التأسيس مزدهرة، ومكللة بالنجاح، ولكن مع الوقت بدأت الخلافات تدب في المؤسسة، وتم فض الشراكة، وانفصل هو وصديقه رامي وقاموا بتأسيس شركة أصغر، كانت بالكاد تدر عليهم بعض الأرباح، وبعد عدة سنوات قرر العودة إلى بلده، وأثناء رحلته كان لديه الكثير من الوقت ليفكر في الطريق الذي سلكه وكيف أنه ضيع عليه فرصة وظيفة مضمونة في شركة مرموقة من أجل مشروع لم يكتب له النجاح، وعليه الآن أن يبدأ مرة أخرى، وصل إلى البيت عاد وأخذ يحدق في السقف وأمنياته لو أن الزمن عاد به واختار أن يعمل في الشركة.

استيقظ في اليوم التالي وقد جاء خبر قبول تعيينه في وظيفة مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة، في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه، وبعد تفكير طويل في الأمر وحيرة، قرر أن يرمي بالنرد، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أنا محتار بين خيارين.

غرفة بيضاء

prescription-addiction-black-white-woman

 

 

كانت تحدق عبر نافذة الغرفة البيضاء التي تقبع فيها ممددة على فراش هو الآخر أبيضٌ جدًا، ورغم كل هذا السطوع إلا أن السواد يحيق بكل شيء حولها، فلا تتبدى لها سوى العتمة التي تعيشها، تلك التي ينزف ظلمتها كل الأوجاع التي تتخطف سكونها، والذكريات التي لا تنفك تتكرر بلا توقف كأسطوانة مشروخة تعيد نفسها مرارًا مرًا.

الألم لا يغادر جسدها ورائحة فمه النتنة لم تغادر أنفها وطعم الحزن يعبر حلقها كغصة لا تنتهي، تتحسس أسفل بطنها، تجهش في البكاء، فكل شيء أبعد من أن يكون مجرد حلم، فهو أقبح وأبشع حقيقة قد يعيشها إنسان. فقدت من شدة النحيب واختناق الفرح في صدرها، لم تقوى على التنفس، وغلبتها بشاعة الواقع. أيقظتها يد تكمم فمها همس صاحبها “هششش.. أنا هنا لمساعدتك” كان ذلك بعد ميلاد الدهشة والخوف والرغبة في الصراخ التي اجتاحتها، ثم أردف يقول “سمعت قصتك، وسمعت بكاءك، وأصغيت لحزنك، وما جرني إليك سوى أمانيك الصامتة التي تيممت بها طوال اليومين الماضيين، سأحرر يدي رويدًا، فهل لك ألّا تصرخي؟ لم تستطع تمالك نفسها فصرخت ما أن أرخى كفه، فأعادها من حيث كانت.

تنهد وقال: يبدو أننا سنكمل حوارنا بهذا الشكل، إسمي انكسار، أنا هنا حتى أحررك، ولكن لأفعل ذلك، لدي فقط خياران يمكنني مساعدتك بهما، عليك أن تختاري أحدهما، هزي رأسك إن كنت تريدين معرفة خياراتك. هزت رأسها وقلبها يخفق بقوة، فهذا المشهد يعيدها للقاع الذي خرجت منه للتو. ابتسم وعقب: خيارك الأول أن تفقدي ذاكرة ذلك اليوم كليًا وكأنه لم يحدث، لكن آثاره ستبقى على جسدك كما هي الآن. أما خيارك الثاني فهو أن يشفى جسدك كاملًا ولكن ذاكرتك ستبقى حاضرة، كألم في الخاصرة لا يمكنك الفكاك منه. كنت أتمنى لو كان بإمكاني أن أفعل أكثر، ولكن هذا أقصى ما يمكنه فعله لأجلك. لا أريد إجابة مستعجلة، خذي وقتك لتفكري، أما الآن فأريدك أن تغمضي عينك قليلًا، انصاعت له مباشرة لشدة خوفها، وحين فتحت عينها لم تجده، ولم تجد له أي أثر، كأنه حلم، أو نسمة هواء انسلت من نافذة وتلاشت.

انفجرت باكية، فهرعت الممرضة إلى غرفتها لتعرف ما الخطب، وقفت تسألها ما خطبها، ولكنها لم تستطع النطق بكلمة واحدة، وبقيت على حالها حتى غادرتها الممرضة وبعدها جرّها النوم إليه. استيقظت في منتصف الليل فرأته في حلته البيضاء ذاتها، شابٌ وسيم في مقتبل الثلاثين، يرتدي قبعة ناصعة البياض، كشف عن طقم من اللؤلؤ مختبئ خلف شفتيه النضرتين، وعينان زرقاوان، وذن بني اللون. قال لها: هل اخترت؟ هزت رأسها نافية تجيب عن سؤاله، ولكنها كانت أقل خوفًا منه.

وضع سبابته على شفاهه بينما ابهامه جلس على ذقنه، أخذ يحدق من خلال عينيها ثم قال: أعل أنكِ قد لا تثقين بي، فما يدريك أنني قد لا أفعل ما فعله بك ذلك المجرم الحقير. لن استعجل قرارك فالخيارات صعبة كما قلت لك، سأزورك لاحقًا لأطمئن عليك، ومن ثم سنرى إن كنت ستزاولين هذا الصمت الحزين طويلًا. أغمضي عينيك مرة أخرى، حاولت ألا تفعل لتجد نفسها وكأنها قد أفاقت للتو وقد اختفى ذو السترة البيضاء. حاولت أن تفهم ما الذي حدث، كيف تعثرت بالنوم دون أن تشعر، فخمنت أن كل ذلك لم يكن سوى حلم دفنته في وسادتها.

عادت أمها صباحًا وقد احضرت لها حاجياتها وطعاما كانت قد أعدته لها، وأخذت تعتذر لأنها لم تبت تلك الليلة معها. لكنها كانت شاردة الذهن، تحدق في العدم كعادتها. مر يومان وهي تنتظر ظهوره، ولكن دون جدوى، لم يعد يزورها، شعور كان يساورها ويخبرها أنه ليس مجرد حلم عابر. نظرت نحو أمها وقالت: أمي، هل لك أن أبقى اليوم وحدي. وبعد كثير من الإلحاح والإصرار وافقت أمها على مضض.

حل المساء وحل اليأس ضيفًا ثقيلا عليه، أغمضت عينيها ورموشها تعلن الحداد على آخر أضواء الأمل برؤيته، ولكنها فتحت عينيها بسرعة ليتراءى لها واقفا عند طرف السرير. حاولت الاعتدال في جلستها ولكن دون جدوى، فأخذت تهذب شعرها، بينما جلس هو من حيث كان واقفا. ابتسم وهو يسألها: هل اخترتِ. هزت رأسها وابتسامة في وجهها. ثم فرقت بين ضفتي نهرها، كانت تحاول أن تبوح بشيء، لكن دون جدوى. ودون أن تفارق تلك الابتسامة وجهه قال: أعلم ما الذي تريدين أن تسألي عنه، تريدين أن تعرفي من أنا! صحيح؟ هزت رأسها مسرورة. قال: ليس الآن لاحقًا. ثم أردف يقول: ها، ماذا اخترت، النسيان أم الشفاء التام؟ أشارت بسبابتها لتجيبه. هز رأسه ثم أطرق لبرهة، وقال: اتفهم ذلك، وقد توقعته منذ أن انجبتني محنتك. لا بأس، لك ذلك. اقترب منها ببطء، وضع كفه على رأسها وقال: غدا تنسين كل شيء، كأن شيء لم تريه أو تسمعي به. غلبها النعاس فجأة، حاولت مقاومة ذلك، كانت تقاوم لأنها تملك الكثير من الأسئلة التي تريد أن تسأله عنها، ولكن محاولتها اليتيمة تلك باءت بالفشل.

استيقظت في اليوم التالي، كان البياض يخيم على كل شيء، “هذه ليست غرفتي” كانت تلك أول خاطرة راودتها، قفزت برأسها من وسادتها لتجتاحها الكثير من الآلام المتفرقة. حاولت تحريك قدمها ولكن دون جدوى فقد كان عليها لف طبي، تحسست وجهها بعد أن لمحت لونا أبيض تحت عينها، الكثير من الضمادات كما يبدو، حاولت أن تستوعب ما الذي يجري، أصيبت بنوبة هلع، أخذت تصرخ، وأخذ جسدها يرتجف بشكل لم تعد مه تقوى على الحركة بتاتًا، هرع الأطباء نحوها، وكان الحل الوحيد أبرة مهدئة وكثير من محاولات التطمين والتودد من الممرضات.

دخلت والدتها غرفتها، وما أن رأتها حتى أجهشت بالبكاء وسبقتها بالأسئلة: ما الذي يحدث، لم أنا هنا وهكذا، ما سبب كل تلك الآلام التي أشعر بها أسفل بطني، ما الذي حدث لي أرجوك أخبريني أمي. كانت والدتها في صدمة ممتزجة بحيرة مفرطة، ظنت كأول تخمين راودها أن أبنتها تدّعي النسيان، ولكن حين رأت نظرة الهلع التي تعتريها، أدركت أن هنالك خطب ما. ابتسمت وقالت لها: حادث مروري ولم تزد على تلك الكلمات أي شيء وخرجت مسرعة نحو الممرضات تطلب مقابلة الطبيب.

عادت برفقته وقد أطلعته على ما حدث، أخذ الطبيب يقيس درجة حرارتها وفحوصات اعتيادية أخرى، ثم وجه لها عد أسئلة حول آخر ما تذكره. لاحظ الطبيب أنها لا تذكر شيئًا يخص حادث الاعتداء الذي تعرضت له، لا شيء من الرعب الذي مرت به، ولا شيء من الوحشية التي وسّمت جسدها وعلقت في ذاكرتها، حسب التقارير الطبية أن المجرم لم يكتفي باغتصابها، بل وأقحم أداة حادة أسفل جسدها بعد أن دنسه بجسده القذر. كل تلك الجروح والندوب والنزيف نسيته وكأن لم يكن. كان الطبيب يعيش لحظة ذهول، طلب أشعة مقطعية لرأسها فلربما هنالك إصابة في رأسها تسببت في هذا النسيان، ولكن عادت النتائج سلبية، لا يوجد أضرار في الأجزاء الخاصة بالذاكرة.

دون الطبيب ملاحظاته، وأخبر والدتها بالآتي: سيدتي، يبدو أن ابنتك فقدت ذاكرتها نتيجة للصدمة التي مرت بها بعد الاعتداء الوحشي الذي مرت به، نادرًا ما يحدث هذا الأمر، في محاولة من العقل لتجاوز المحنة. سأطلع الطبيب المناوب بذلك، فقد انتهت نوبتي، وأرى من الأفضل ألا تخبروها بحقيقة الأمر فقد يساعدها ذلك على تجاوز المحنة، وسنبقيها تحت الملاحظة فربما هو غياب مؤقت للذاكرة.

خرج الطبيب ليدخل بعد برهة الطبيب المناوب، امسك بملفات المرضى وقد عاين الجناح كاملًا حتى وصل إليها، أمسك الملف وهو ينظر إليها، نظرت إليه وقد خفق قلبها بشدة، رأت فيه شيئًا جعلها تشعر لوهلة أنها تعرفه، ابتسامة لؤلؤية، ذقن بني، وعينان زرقاوان كسماء ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لأول مرة منذ استيقظت في المستشفى.

ملاك عاهر

60710907_10157057845415446_1707793741235879936_o

أخذ يرتدي ثيابه ويمسح بلله وعرقه وهو يقول: ما سبب هذا الأثر على يدك، نظرت إلى يدها وبامتعاض شديد أجابت: تشاجرت مع زبون حقير هذا المساء، قرر أن يسرقني وحاولت منعه ولكنه هرب وقد حاول سرقة ما كان في حقيبتي. وباهتمام مصطنع سألها: ما الذي دعاك لعمل كهذا. أدخلت النقود في حقيبتها وهي تقول: من أجل هذا طبعًا! عقب قائلًا: ألم تجدي عملًا شريفًا؟ فأجابته: كلا، أعمل عملًا شريفًا كما تسميه، ولكنه لا يكفي حاجتي، فأنا مصففة شعر بالنهار وبالكاد يكفيني أن أدفع اجار الشقة. اخرج محفظة من بدلته بعد أن لف جزءًا من ربطة عنقه، ودون أن ينظر للمبلغ الذي سحبه منها، ألقى به أمامها بينما تهم هي بارتداء ثيابها وقد أردف يقول: لقد اشفقت عليك وعلى حالك، تستحقين هذه الزيادة في أجرتك. نظرت إلى الورقة النقدية التي استقرت بقرب قدميها الحافيتين، كانت من فئة العشرين دولارً، ارتد بصرها نحوه وقالت: شكرًا، لا آخذ صدقة من أحد.

انفلتت من بين أسنانه الصفراء ضحكة مستهزئة، ثم اخرج مزيدا من النقود وألقاها ثم قال: هذه لأنك جعلتني أضحك. وبانفعال شديد ركلت النقود وهي تقول: خذ نقودك، أنت المثير للشفقة، تظن أنك تستطيع أن تشتري كل شيء بالمال، ومثير للشفقة لأنك تتخفى من الناس لتأتي إلى هنا كالجرذان، تفتش عن سلطتك التي أضعتها ورجولتك التي سلبها العمر منك، بالكاد شعرت بك.

ألم به الغضب فأقترب منها مسرعا وامسك بعنقها وهو يقول: انظري إلى نفسك جيدًا في المرآة، لا أحد يرغب بك للأبد، أنتِ مجرد نزوة عابرة، لم تعيشي حياة طبيعية، انظري إلى الحظيرة التي تسكنينها، ظننت حين أرسلت لي صورًا لك أنك التقطتها في مكب نفايات، ولكن يبدو أن هذا هو سكنك، لم تتزوجي وقد تجاوزت الثلاثين، ولن تحلمي بذلك، لن تصبحي أمًا وسيلفظك المجتمع كأي شيء حقير.

نفضت يده وهي تصرخ ابتعد عني، وأكملت بصوت مرتبك وبنبرة يشوبها الغضب والخوف: أنت وأمثالك من جعل العالم يطأنا بكلتا قدميه، واستجمعت صوتها وابتلعت ريقها وأكملت: أوجدتم الفقر واختلقتم الفقراء، جعلتم من الصعب علينا نحن الضعفاء أن نعيش حياة طبيعية، بات علي كل يوم أن أواجه قذرًا مثلك ما كان ليحلم بأن تمسك بيده فتاة لولا حاجتها لما يملك من مال، أنت وأمثالك تأتون إلينا بحثًا عن شيء صادق، فمن الخاتم البراق الذي ترتديه يمكنني أن أفهم أنك حديث العهد بزوجة جديدة، وتخشى في قرارة نفسك أن هذه الزوجة لم تقبل بك إلا من أجل مالك، ونحن الحقيقة الوحيدة التي تثق بإلمامك بها، فنحن نهبك خدماتنا من أجل المال، ونعترف بذلك، ولهذا تلجأ إلينا. ثم انظر من يتحدث عن العمل الشريف، على أقل تقدير فإنني أعمل بجد وأحفظ الدين وألزم وعودي وأعطي المحتاجين ولا أغش أحدًا، بل وأدعو الرب أن يرزقني كفاية هذه النتانة، نتانة أن أقابل شخصًا مثلك، يستغل الضعفاء، ويغنى على حساب شقائهم.

وقبل أن تكمل ثرثرتها، كان قد امسك عنقها وأخذ يخنقها بغضب جم، وهو يقول: اصمتي أيتها العاهرة وأعلمي قدرك ومع من تتحدثين. وبينما هي تحاول التخلص منه والاستغاثة، لم يستطع أن يواصل خنقها فأفلتها، لتفقد هي توازنها ويرتطم رأسها بحافة السرير، دنى منها وركلها وهو يقول: انهضي، وحين لم تحرك ساكنا، شعر بالقلق، فدنى منها يهز جسدها العاري، ليتحسس نبضها، كان قد توقف كل شيء، وبدأ القرمزي يسيل من بين خصلات شعرها الليلي، نهض مرتعبا وشد ربطة عنقها ودلف مسرعًا في ممرات المبنى يبحث عن مخرجها.

وصل إلى المخرج، اسرع الخطى بين الأزقة والسماء تمطر، القرمزي يرسم جناحين لتحلق بهما روحها، هاتفان يتبادلان اللحن، في شاشة أحدهما “زوجتي وفاء” وفي الأخرى “الأميرة الصغيرة أختي” بينم يلقي الليل بعتمته على المشهد

غرق

26198291_10155822254305446_4678631683942533452_o

 

ظننت أن قرار انتحاري للهرب من حياتي كان قرارا جيدا بما يكفي. كنت اخطو إلى الداخل نحو الشمس لنغرق سويا، جمال الغروب جعل أضفى على رغبتي كثير من النعومة والجاذبية. كنت انظر من خلف كتفي أثناء سيري البطيء، كان كل شيء يصغر رويدًا رويدا، الناس والشجر والصخر والأرض التي تبدو أقل استقرارا من دواخلي. كم يبدو العالم أكثر أمانا من بعيد. حين وصلت للبقعة الداكنة من هذا البحر الهادئ، اندفعت وحررت جسدي مستقيما، كانت أول ثوان لي هي أفضل اللحظات التي عشتها منذ ولادتي، كل الضجيج الذي بداخلي صمت فجأة حين صرت تحت الماء، اسمع صوت حركة الماء من حولي، واشعر بجسدي يهبط متحررا من كل ثقل، راودني شعور أعادني طفلة إلى رحمي الأول، و أعاد الصوت الحياة إلي رويدا رويدا، رغم أنني هاربة إلى الموت. استحضر وقبل أن أفرغ الهواء الذي بداخلي كل حالات الفشل التي عشتها كل اللصوص الذين سرقوا مني طفولتي ومراهقتي ولم يشبعوا حتى طاردوا شبابي، وأخشى أن يفعلوا ذلك حتى هرمي، ولو كان بيدهم لفعلوا ذلك حتى في قبري.

كان شريط حياتي يمر أمامي ببطيء الغرق الذي امارسه، كنت أود لو تنقضي هذه اللحظة أسرع مما ينبغي، من سيبالي بموت عورة، الكل سيشعر بالراحة، فهم لا يمارسون طغيانهم عليها لخوفهم عليها، بل لخوفهم منها، هم يخافون أن تمارس الحياة كما تحلو لها، تتخذ قراراتها، تصنع ذاتها، تجلب لهم العار والفضيحة، هذه هي مخاوفهم وهلاوسهم، هم يريدوننا فتيانًا حتى ما إذا مارس الحياة كما تحلو له قالوا “هو ولد شايل عيبه” أما نحن فالعيب هو من يحملنا كما يبدو، منذ النطفة الأولى وحتى اللفظة الأخيرة. لو كان خوفهم علينا هو وقودهم، لما كنا نحيا حياة المعتقلات المقتولات. لا أدري ماذا كان سيصنع والدي لو علم أنني أحب ابن جارتنا، وأنني أحلم كل يوم بأنه يقبلني كما في قصة الأميرة النائمة، أو أنني حاولت الخروج وحدي عدة مرات لأسير قليلا في متنزه المدينة لأنني سئمت البقاء بين حيطان البيت التي لا تجيد سوى فضح وحدتنا. لا أدري ماذا سيفعل أهلي لو رفضت الزواج من ابن عمي الذي يفصل بيننا عمر وكأنه قرن.

لن استطيع أن احصي عدد المرات التي كنت اضطر أن افرق بين ساقيَّ حتى تتأكد جدتي من أنني لا زلت فتاة، وأن جارتنا اللعينة التي اتهمتني بما يسمونه شرفي كانت تكذب كعادتها. لن احصي كم مرة نهرتني أمي لأنني وضعت عطرًا، أو ظهرت شعرة متمردة من تحت حجابي دون علمي قبل أن ابلغ الخامسة عشر من عمري. أو حين ظهر ساعدي عندما رفعت يدي لأنزل شيئًا من رفوف الدكاكين. لكن يمكنني أن أحصي كم عدد العباءات الملونة أو المطرزة التي اشترتها لي أمي… نعم صفر، كانت كل عباءاتي عبارة عن قطعة قماش سوداء فقط، لا أدري هل يمكننا أن نرتدي على الأقل لونا أقل تشاؤما منه، أم مكتوب علينا أن نرتديه فقط في قبورنا!

وحين ظننت أنني افر من كل هؤلاء إلى زواج يأخذني بعيدا عن هذا النحس الذي لازمني وتلك المعارك التي خاضتها روحي التائهة داخل هذا الجسد المضرج بالجروح والندب والكدمات، وجدتني احيا بذات الحظيرة، من أسرة تعاملني كحيوان إلى زوج لا يقل عنهم صفة من الحيوانية، خرجت من معتقل سياسي إلى معتقل انفرادي، حيث القانون والأعراف تمنحه حق التسلط والتنمر والحبس والحرمان، كنت افكر كثيرا بهذا المهرب، ولكن كنت أتردد مرارا وتكرارا، حتى ادركتني مشاعر أمومة طائشة همست لي أنه وربما يكون ملاذي الأخير هو صوت بكاءه، وضحكاته التي لا يفهمها بعد، فقررت أن أحمل وانجب طفلا أو طفلة، يملؤون علي مماتي ويعيدونني إلى الحياة.

حبلت ذات ليلة مظلمة كان يتصنع هو فيها الحنان والاهتمام والرعاية، أظن أن كل ما كان يبحث عنه هو أن ينادى أبو فلان، لم يكن يفكر أن حملي سيجلب له أخرى تشبهني، يحاول تقييدها كما فعل معي، البسي، كلي، لا تخرجي، سأضربك إن لم تستمعي لي، ويعيد نسخ تجاربي من جديد في قالب يشبهني بل هو قطعة مني، وكأنني أورث مأساتي وعذاباتي. كان وجهه ممتعضا وكان يحاول أن يرغم شفتيه ع الانفراج بشكل مزيف، وما أن سمعت صوت انغلاق باب البيت بعد أربعة أيام عشتها في حضرة ملائكة الرحمة بلا أبواب، دلف إلى غرفته من حيث لم يغادرها، وحملت ع عاتقي مسؤولية طفلان، هو أحدهما، اطبخ واكنس واسهر وارضع، بالكاد أجد وقتا للراحة، كان فقط يتنكر بزي الأبوة حين يمر بنا ضيوف كرام، ثم يمسح تنكره ما أن يخرخش الباب.

بدأ جسمي يقاوم الفكرة، ويحاول أن ينتزع مني فمي ليسحب نفسًا، وبعد مقاومة لم تطل، حررت فمي له، بل وكل جسدي، بدأت انازع الموت، وعقلي يعبث بكل أطرافي، شعرت برعب كبير، ما الذي ينتظرني في الضفة الأخرى، مر شريط آخر بحياتي، كانت بدايته دنيا، ابنتي، ولم تكن له نهاية، تذكرتها وكأنني التقيت ذاكرتي للتو، كان لليأس سطوة أكبر من أن يجعلني اذكر أو أرى أو حتى أفكر، تلك اللحظة الوحيدة في حياتي كلها التي تمنيت فيها حقًا أن أعيش، قاومت بكل قوة ونازعت بكل ما بقي من روحي المغادرة، رأيت ضوء أبيضًا، علمت بأنني سلمت نفسي، لم اعتقد يومًا أن الموت مخيف هكذا، الموت بحد ذاته ليس مشكلة، لكن السؤال الذي لا يجد الإنسان إجابة شافية له هو: أين سيذهب بعد الموت، فالعدم شيء مربك، رغم أننا جئنا منه، لا نستطيع أن نتصور الأبدية، ويستحيل علينا فهم العدم، ماذا بعد الموت، هل ينتظرنا حساب وعقاب، هل ينتظرنا بعث جديد، هل سيفتقدنا أحد، هل سيرثينا أحد، كيف سيحيا من نحب، وكل ما فكرت فيه في تلك اللحظة أمنية واحدة، أن أرجع، لأنني كنت أنانية بملاحقتي للموت ظنا منه أنه نهاية لمأساتي وحل لمشاكلي.

سمعت أصواتا كثيرة، بعضها يردد غطوها غطوها، وأخرى هل تتنفس؟ لم اشعر بأطرافي، ولكنني شعرت برغبة ملحة بأن اسعل، وبعدما فعلت، افقت ووجدتني ممدة عند الشاطيء، والنسوة من أهلي يحيطون بي، ينتظرون عودة زوجي ليذهب بي إلى المستشفى، بينما دنيا تبكي عند رأسي. مددت يدي نحوها واحتضنتها بما ملكت من قوة، وهمست لها: دنيتي، أنا اعتذر منك، كنت أنانية في قراري، سأفعل كل شيء، سأحارب كل شخص حتى لا تقاسي ما قاسيته، ستكونين حرة في مملكتي، سأكون قوية من أجلك، ومن أجل جيل يأتي من بعدك تخرجينه من سجوننا المقيتة، وتفكين أغلاله، دنيتي، كنت جبانة، وظننت أن الحل في الموت، ولكنني كما يبدو الحل في الحياة، ربما لن تفهمي كلامي الآن، ولكن ستتذكرينه يوما ما.

وهذا ما قالته لي أمي، أمي التي تعلمت منها الكثير، وبسببها ها أنا اليوم أقف أمامكم لألقي هذه الكلمة: قالت دنيا لجمهور الطلبة والآباء في حفل التخرج بشهادة الدكتوراة.

انترنت

edf

في طريق عودته من العمل كان يعبث بهاتفه، وفجأة سمع صوت ارتطام قوي، فإذا بسيارة قد ارتطمت بحائط إسمنتي ومن ثم بعمود إنارة على طرف الطريق، أوقف سيارته على مسافة قريبة من الحادث يتفقده، خرج وحين اقترب وجد الرجل ممدًا فيما بقي من السيارة والدماء تسيل وهو يلفظ أنفاسه، بينما بترت ساق مرافقه الذي انحشرت ساقه بين قطع السيارة الممزقة، أخرج هاتفه محاولًا أن يصور الحادثة، ولسوء حظه، لم يكن في هاتفه بطارية ليتسنى له أن يلتقط أي شيء من هذا المشهد، هرع إلى سيارته ليقوم بشحن الهاتف بسرعة، ولكن حين حظي بقليل من الكهرباء فيه، وصلت الشرطة وبدأت في إبعاد المتجمهرين عن المكان ومنعت الناس من التصوير. خسر فرصته في توثيق هذا الحدث المهم، أخذ يفكر في عدد الذين كان ليعجبهم هذا المشهد، وكيف أنه كان ليصبح ذائع الصيت.

وصل إلى البيت لا يلوي على شيء سوى التسكع في أرجاء قائمة أصدقاءه في مواقع التواصل الاجتماعي، احضر قهوته وجلس على كرسي مكتبه المنزلي يكبكب الصفحات على جهازه، وأخذ يقلب الكثير من الاوسام في موقع تويتر، جال به حتى تعثر بصره بوسم #خادمة_تقتل_رضيعة، قلب التغريدات بحثًا عن صورة للخادمة، وبعد أن وجدها وتأمل ملامحها ودون انطباعاته عنها، عاد ليبحث عن شيء أكثر أهمية من هذا. أخذ يقلب صفحة الوسم باهتمام بالغ، وحين وصل لذيل تويتر، أدرك أنه لن يجد ما يبحث عنه هنا. أخذ العنوان وألقاه في محرك البحث، قفز بكلتا عينيه في وسط كل تلك النتائج التي برزت له، وبعد بحث مضنٍ، عادت عيناه بخفي حنين. لم يجد الصورة المرجوة.

شرب القهوة بحنق بالغ، عاد إلى الفيسبوك بحثًا عن شيء يملأ الفراغ الذي تلبسه، شاهد الكثير من المقاطع المضحكة، وصور زواجات أصدقاءه وصديقاته في الموقع التي ملأت صفحته، وكلما شاهد أحدهم قد غير حالته من أعزب إلى متزوج عكف يشتم مارك على عدم وضعه لزر عدم الإعجاب في الساحة حتى يمارس غضبه على كل هؤلاء الذين يشاركون كل حالاتهم المزعجة وتفاصيل حياتهم المزيفة من وجهة نظره.

نظر إلى الساعة، كانت تشير إلى الخامسة عصرًا، قرر أن يغلق جهازه ويأخذ غفوة قصيرة، ولكن ما أن حرك مؤشر الفأرة نحو زر الإغلاق حتى جاءته رسالة تحمل وصلة من صديقه، فتح الرسالة، ودون تردد ضغط على الوصلة، استغرق تحميل محتواها بعض الوقت، كان المشهد لفتاة في الخامسة عشر من عمرها، تسرد رغبتها بالانتحار وأسباب ذلك في رسالة مطولة تذكر ما تعرضت له من تحرش جنسي من زوج أمها عدى عن إهمال أمها المستمر لها من بعد انفصالها عن والدها. لم يكن واضحا للمشاهدين موقع الفتاة. كانت قد قررت أن تنهي حياتها بشنق نفسها. قضت العشرين دقيقة الأولى تعد المكان وتهيئ المشاهدين لعملية انتحارها. بين البكاء والاعتذار والتبرير قضت الدقائق الأولى من تعليق نفسها في حبل ربطته بما يبدو شجرة في ساحة ما. عدد المشاهدات فاق الثلاث ملايين للحدث، وعدد التعليقات ناهز الخمسين ألفًا. كلمات التوسل أرسلت تباعا، الانتقادات والإساءات انهالت كفاف ذلك.

أدار المتابعين جلسات مناظرات على حساب روح الفتاة التي قد تفارق في أي لحظة، كان الحدث مهما ليستدعي اهتمامه واهتمام الثلاثة ملايين متابع، والملايين المحتملين. ذهب مسرعًا ليحضر بعض المكسرات من المطبخ، وعاد ومدد ساقيه فوق الطاولة وارخى جسده وهو يتفحص جسد الصغيرة متحسرا على ضياعه هباءً إن كان ما ستفعله حقيقة، متابعا بصمت بين الفضول والتأمل والترقب. بينه وبين نفسه يريد أن يراها تموت ببطء، أن يشهد هذا الحدث المهم، ألا يفوت الفرصة كما حدث سابقًا. حتى هاتفه الذي يرن كان يجيبه برفض المكالمة أحيانًا أو اطلاع المتصل على الحدث المهم أحيانا أخرى، بحسب المتصل.

شدت الفتاة الحبل حول عنقها وقد انهارت قواها من فرط البكاء، أغمضت عينيها بقوة، ودفعت الكرسي إلى الخلف وسقط جسدها نحو الأسفل معلقًا بالحبل. بدأ جسدها يتلوى من الحدث، يتشبث بالحياة التي باعتها صاحبته، يقاوم الموت بكل ما لديه من قوة، وقدميها تبحثان عن موضعهما دون جدوى، وبينما هي تنازع قدريها، انقطع البث فجأة. اعتدل هو في جلسته، وضغط زر إعادة تحديث الصفحة عدة مرات، ظهرت رسالة في وسط شاشة البث: تم إنهاء الفيديو المباشر، سيتاح للمشاهدة في وقت لاحق. دخل إلى ملف الفتاة الشخصي، أخذ ينقب فيه، يبحث عن تكملة للاحتضار وتتمة للموت، لم يكن يجب على البث أن ينقطع قبل أن يحضر الموت بثوبه الأسود، بل كان حقا من حقوق المشاهدين أن يتأملوا ذلك الجسد النافق المعلق بالحبل وهو يتأرجح ذهابا ومجيئًا، أن يشبعوا فضولهم وعدم مبالاتهم وأنانيتهم.

أغلق الصفحة بغضب شديد، ما هذا اليوم السيء، لم يستطع أن يحظى بمشهد كامل لأي موت مر به، تذكر الحادث بحسرة، والخادمة بغضب، والفتاة الصغيرة باستياء جم، شعر أن السبب هو انقطاع الإنترنت أو بطء الشبكة هو ما تسبب بتوقف الفيديو عند اللحظة الحاسمة والأهم في هذا المشهد. تمنى لو أنه استطاع أن يلتقط ولو ميتة واحدة في هذا اليوم، تناول المكسرات بغضب وهو يحدق بشاشة الجهاز. أخذ يركل ويضرب بعشوائية فجأة وهو يمسك بكلتا يديه عنقه، وبعد محاولات مستميتة للسيطرة على الوضع، فشل وتوقف عن الحركة بتاتًا.

وصل إلى العمل، امسك صحيفة اليوم، وكعادته قام بفتح صفحة الحوادث، تم نشر خبر تحت عنوان “وفاة شاب في مقتبل العمر مختنقًا بالمكسرات” دون العنوان في محرك البحث، لأن المقال لم يكن يحمل صورة.

صدر طاهر

14467015_10154393378690446_1437692885_o

أمسكت بيدها المرتعشة مفتاح الشقة، وفي كل مرة كانت تحاول أن تقحم المفتاح، كان القفل يلفظ المفتاح الذي يخربش جسده، وبعد معركة غير مخطط لها، نجحت في إقناع القفل بأن المفتاح لم يقصد ضررا، وقامت بفتح الباب. جاءت ابنتها ذات التسعة أعوام وقالت بصوت طفولي: أمي لمَّ تأخرت هكذا! لقد أخبرتني أنك لن تطيلي البقاء. نظرت إليها وبقلق سألتها: هل عاد والدك؟ متجاهلة حديث الصغيرة. أجابتها بكل براءة، كلا لم يعد بعد. وماذا عن أخوك حسام. تهز رأسها بالنفي. وهل نام أخوك الصغير؟ آه، كان يبكي، فأطعمته وقمت بتغيير ثيابه. تبتسم على مضض وتمسح على رأسها قائلة: أنت فتاتي الجميلة، لا تخبري والدك أنني خرجت، اتفقنا، وهذه هي الحلوى التي وعدتك بها. تأخذ الحلوى وتهرع الصغيرة نحو التلفاز لتشاهد رسومًا متحركة، بينما تمضي ساقين مثقلتان بالعالم نحو غرفة النوم.

أغلقت الباب خلفها وبددت عتمة المشهد بنور أبيض لم يستطع التشبث جيدا بالحائط؛ فأصبح معلقا طرفه بسلك كهربائي، ألقت بحقيبتها، خلعت حجابها، وبما بقي من قوتها ركلت حذائها تحت السرير. تهاوى جسدها على مهل حتى جلست على طرف السرير، لازالت غير مستوعبة لما حدث للتو، كانت مشوشة، قلقة وخائفة جدًا، فما واجهته لم تحسب له أي حساب، كانت تظن أنه كان صادقًا معها، وراهنت في كل ما حدث على مشاعرها وحدسها نحوه، دون أن تشك ولو للحظة، أن تلك الملامح البريئة، تخفي كل هذا الشر، وكل ذلك الخبث والمكر.

قبل عدة أشهر من تلك الليلة المظلمة هيئة وشعورًا، كانت هي وكعادتها تعود مسرورة من السوق بعد إن تبتاع بعض احتياجات البيت مما تكسوه البطن ويكسوها. ففي كل مرة تقف لتدفع الحساب كان موظف الصندوق الجديد يتبسم لها، ويحاول أن يفتح حوارًا بسيطًا معها، ولأنه لم يكن يتجاوز زهرة العشرين سوى بعام أو أثنين، كانت تبتسم له وتبادله الحديث والسؤال عن الحال، وأكثر ما يجعلها مسرورة، هو أنه يخطف بعض الصور الذهنية لقوامها الرشيق ونتوءاتها الصارخة.

تطور الأمر بينهما بعد أن بادر هو بتوصيل حاجياتها إلى البيت في إحدى المرات، مما مهد له الطريق لإيجاد سبب لا يمكن الشك في نواياه؛ لإعطائها رقم هاتفه. كانت الأمور جيدة جدًا، حتى جاء ذلك اليوم الذي اُشْعِلت فيه شرارة الخطيئة الأولى؛ فقد اتصل بها بعد أن احضر الحاجيات وسألها عن حالها وسبب عبوسها اليوم في وجهه. كانت تتهرب وتتذرع بأنها متعبة، بينما يقاوم صدرها كل تلك الأحاديث التي تود أن يصغي لها أحد. ليس أي شخص، بل أحد يهتم حقًا لأمرها. أغلق الهاتف، وبعد ساعة عاود الاتصال؛ ليسألها ذات السؤال، في تلك اللحظة كانت فاقدة للحيلة، وشعرت برغبة ملحة في اطلاعه على كل ما يدور في صدرها، وكل ما يحدث خلف تلك الأبواب المؤصدة.

كثرت طلباتها منذ ذلك اليوم، حتى اشتكى زوجها من نفاذ المال سريعًا، وتكدس حاجيات البيت، والتي غالبا إما أن تفسد أو تبلى دون أن يستخدمها أحد. هي لم تكن تبالي لكل ذلك، يكفي أنها تعلقت بذلك الخيط الرفيع من الأمل الذي يخرجها من الملل والألم الذي تعاقره كل مساء حين تحاول جاهدة أن تغمض عينيها بقرب شخص بينهما أميال غير مرئية، يهملها، وينهرها. حتى أنه لم يقل لها يومًا “كم أنت اليوم جميلة” أيًا كان ما تصنعه؛ لأجل أن ينفض سمعها ذلك الغبار الذي خيم على كل الكلام الجميل الذي كانت تظن أنها ستسمعه بعد أن تتزوج. تكاد تقسم كل يوم أن تلك الكلمات لو خرجت من فمه، ستخرج صدئة، مهترئة لا تقوى أن تثقب السمع فتعيد الروح لسامعها، بل وربما لن تستطيع أذنها الإصغاء إليها أو حتى تفكيكها.

كانت تراودها رغبة ملحة لتسأله ذلك السؤال الذي لم يترك بابا في رأسها إلا وطرقه علّه يخرج ليلتقى مع الإجابة. قالت بينما كانت تهاتفه بعد تردد استمر ألف سنة من عمر الكلام: هل تراني جميلة؟ قهقه الشاب بخفة، ثم قال: كيف للحسناء أن تسأل الوحش إن كانت حقًا جميلة، يكفيها أن تنظر للمرآة لتجيبها المرآة من فورها. راودها شعور غريب، شعور مهيب، رجفة اجتاحت كل جسدها، واهتزت له كل فرائصها. لم تحتمل وقع الكلام فأخبرته أن عليها أن تنهي المكالمة. في الجهة المقابلة لم يعرف هو ما حدث، وأخذ يعتذر منها عما قاله، وكيف أنه لم يقصد التغزل بها. أغلق الهاتف وشعور بالندم يساوره، لم يكن يعلم أنه ليس المخطئ في هذه المعادلة الصعبة، إنما الزمن الذي سلبها هذا الشعور وأعاده لها في هيئة مشوهة فأربكها جدًا حتى اجهشت في البكاء. تلك الليلة لم تعاود الاتصال به، حتى أنها أغلقت هاتفها، واحتضنت وسادتها، وهي تحدق في كتلة غريبة عنها، تنام ملتصقة بها تحت مسمى زوج.

منذ تلك اللحظة، أخذت الاتصالات شكلًا مختلفًا، والعلاقة نمطًا أكثر تعقيدًا، كانت تلك النبتة تنمو في صدرها، كل يوم تسقيها بشهقة الهمسة الأولى، ورؤيته المليون التي تعتبرها الأولى في كل مرة عند بابها، واستحضار ملامحه والتحديق في طيفه أو في صورته، كلها سقيا تلك النبتة التي خرجت من تلك الأرض الجدباء. كانت تخشى الاعتراف بأنه بات أكثر من مجرد أمين صندوق وعامل توصيل شخصي، بل تحول إلى أمين صناديق أسرارها، وملاذها الآمن من عالم الوحشة الذي تعيشه.

بدأت منذ تلك اللحظة تحيا حيوات خفية، لا يعلمها أحد سواهما، بدأ لسانها ينطلق في كل شجار يحدث بينها وبين زوجها بعد أن كانت ضعيفة حيلة، لم تكن تعلم سر قوتها وعدم سكوتها عن جلسات الجدال والمحاكمات الزوجية، كانت تظن أن أرضيتها جافة غير زلقة، والحائط الذي تستند عليه صلب قوي، لهذا كانت تمارس تلك السطوة، وكلما زادت الفجوة واتسعت هنا، تكومت في الجهة المقابلة تلة أخرى من التواصل بينها وبين الشاب. تلك الحياة السرية التي عاشتها كادت تفتضح فيها ألف مرة، خصوصًا في تلك الليلة، تلك الليلة التي لاح في ستار ليلها الكثير من الشهب والألعاب النارية، تلك الليلة العظيمة، التي سمعت فيها كلامًا يحرك الساكن ويفتت الصخر. كان قد قرر أن يصارحها فيها بحبه، فانطلقت تلك الحروف الأربعة، تنثر الورود في كل الممرات والتجاويف السمعية لها، وتفرش بساتين الفرح أمامها. ولفرط البهجة والسرور بتلك الكلمة التي نسيت مذاقها، وفقدت القدرة على استهجائها، كادت أن تنفرط منها هي الأخرى تلك الكلمة، لكن ما كبح جماح ذلك السيل العارم من المشاعر، وذلك الوهج من الحب أنها استحضرت فكرة واحدة. إلى أين يفضي هذا الطريق الوردي. فرق العمر، كتلة اللحم الذكورية التي على ذمتها، أبنائها، ماذا تصنع بكل هؤلاء. لا يمكنها وحسب أن تحيا بهذا الشكل الهلامي المتماهي مع الخطأ. لكن كل ذلك الجليد ذاب عندما حل مطر الإطراء والغزل، ونسيت كل تلك التناقضات التي تحيط بهذه الكائن الذي خلقاه.

يمر شريط الأحداث في عقلها وكأنها أمام شاشة سينمائية، ويتلو سمعها كل تلك الأكاذيب التي صدقتها منه، كيف لها أن تأتمن شخصًا فقط لأنها قال لها أحبك، كيف لها أن تحب شخصًا سوى ذلك الذي يشاركها فراشها، وخزانة ثيابها، وأبنائها، كيف لها أن تسلم مفاتيح جسدها لشخص قضت ضعف الذي قضاه حتى تلك اللحظة، بل شابا في عمر ابنها. كانت حائرة، تائهة، كيف قبلت أن اسلمه جسدي، كيف استأمنته ووهبته كل شيء.

تمسك بهاتفها بيدها المرتجفة، تدخل على مجلد التسجيلات والصور، ترى الملف الذي أرسله، لا تقوى على فتحه، هي تعلم أنه يحمل تسجيلا لهما على قارعة العراء، سجل خلسة بكل نتانة، تحاول أن تقنع نفسها بأن كل هذا لم يحدث، وأنها مزحة ثقيلة، لكنها سرعان ما تعاود استرجاع صراخه وتهديده لها وهما مختبئان خلف ظل الظلام، كانت ترى كيف انسل من جلد العجل ليخرج من تحته وحش بمخالب لم تحسب له أي حساب. لم تكن تحمل أي وسيلة تدافع بها عن نفسها، ظنت في الوهلة الأولى أنها تحمل سلاحًا قويًا، أن تستعطفه بذلك الحب الجارف الذي تكنه له، لكنها لم تدرك أنه لم يكن سوى طُعم يريد أن يصطادها به. لم يفلح بكائها في ثنيه عن تهديده، ولا استجدائه بأبنائها. رد على كل تلك التوسلات بكل عنجهية: الآن تذكرت أن لديك أبناءً. استجدته وتوسلت مرارا وتكرارًا، حتى أنها حاولت أن تقبل كفه التي سحبها من بين يديها ثم دفعها بها بعيدًا عنه. انهارت وحاولت أن تقبل قدماه دون جدوى. ثم قال: أريدك وقتما أريدك، وأطلب من مال ما أطلب، أي مخالفة لهذه القوانين، اعتبري أن التسجيل قد وصل لكل من تعرفين ومن لا تعرفين.

تحاول أن تتماسك، تحاول أن تبحث عن حل، تحاول أن تستدرك أي شيء يخرجها من هذا المأزق وتلك الورطة، وبعد أن نال منها اليأس، انهارت ودخلت في نوبة بكاءٍ لم يوقفها سوى ابنتها التي طرقت الباب: أمي، ما بك تبكين. لتخرج هي مسرعة، تحتضن أبنتها، لتشعر ولو ببعض الأمان في هذا الصدر الطاهر النقي، والذي لا يعرف شرور هذا العالم الموحش.

حادث استفاقة

index

يستفيق من غيبوبته فجأة، ليجد نفسه محاطًا بالممرضات، وفي لحظة من الضياع يرفع الغطاء عنه لينهض؛ فيجد ساقيه غائبتان عن المشهد، لم يحتمل ما رآه، بل ربما لم يستوعبه جيدًا، يتحسسهما بكلتا يديه دون جدوى، يقرص نفسه فلربما كان في غيابة الحلم ولكن دون فائدة. تراوده نوبة هيستيرية، أين ساقيَّ، يسأل بصوت عالٍ موجها السؤال لنفسه، وبهلع يسأل الآخرين ما الذي يحدث، ما الذي أتى بي إلى هنا! وأين أمجد. يخبره من كانوا حوله أنه كان في حادث.

يبدأ في تجميع أحجية ذكرياته، ويلملم شتاتها، تستفيق به ذاكرته لتعيده لتلك اللحظات التي كان فيها ممسكا بمقود السيارة، يبتسم لصديقه، ثم يرفع رأسه بتبج تام وهو ينظر لمنافسه ويشير إليه بيده مقلوبة قاصدا أنه في عداد الخاسرين. يبدأ السباق، ذاكرة مشوشة حول اللحظة التي فقد فيها السيطرة. يرى شريط حياته، أصدقاءه، والديه وأحلامه كلها. كانت ثوانٍ تكفي لعقله أن يسرد فيها قصة حياته وأمنياته.

يقترب من حاجز حديدي بعد أن فقد السيطرة، يرفع يديه ليغطي وجهه، فتلك ردة فعل عديم الحيلة في مشهد قد يكون الأخير في روايته التي صاغ تفاصيلها، يرفع يديه فعقله أعاد له مشاعر اللحظة الأخيرة ثم يمارس حالة من الفزع، يهرع على أثرها الطبيب نحوه، ويطلب من الممرضة أن تعطيه حقنة منومة، يخبو الصوت وينحسر الهلع ويختبئ خلف جفونه التي تعلن استسلامها.

يستفيق من جديد، ينظر بجسد منهك باتجاه مصدر الصوت، نحو السرير الذي بقربه، وفي ذات اللحظة، يهز الطبيب رأسه بكل أسى، يلقي ببصره نحو ساعة معلقة في الحائط، ثم ينظر إلى إحدى الممرضات بقربه ويقول لها: ساعة الوفاة في تمام السابعة صباحا. يغلق الستار بعد أن غطى وجهه، يخلع قفازاته، ويزيل كمامة الوجه ليكشف عن شارب اندلق البياض بخفة على أطرافه، ثم يمضي نحو ذويه لينقل لهم الفاجعة.

يتلقى الخبر ذووه، فيعلو الصياح خارج غرفة العناية القصوى، تسقط الأرواح في القاع، وتسقط الأم مغشيًا عليها، لم تكن كلمات المواساة كافية لأن تحيي جسدًا بصق الموت في عينيه فلم يعد يبصر شيئًا من الحياة. يحاول هو النهوض مرة أخرى، ولكن هذه المرة نحو السرير الذي حمل صاحبه ملامحه صديقه، لم يكن متأكدًا، كان يحمل خوفًا عظيمًا. يبدأ بإخراج ساقيه من تحت الغطاء، ولكنه لم يعد يشعر بهما، يكشف الغطاء ليستعيد المصيبة عبرة تخنقه، ويضيع نحيبه بين كل تلك الاحزان التي تتلى عليه من خلف الباب المغلق.

يعود بالذاكرة إلى اللحظة التي كان فيها صديقه يؤرجح رأسه معلنًا عن حماس شديد للسباق الطائش. ينهار هو ويسدل الستار عن غيمته الممطرة. كثيرة هي الأطراف الخاسرة في هذا الرهان، في سباق كان يفترض به أن يكون الفوز فيه محتما وسهلا، ولكن ما دونه القدر على قارعة الطريق هو الحادث المروع الذي التهم ساقيه، واختطف صديقه.

يضع كفيه في وجهه، يتمنى لو كان كل هذا محض حلم، يغمض عينه مرارًا دون جدوى، يقرص نفسه عله يستيقظ دون فائدة ترجى، يعاود مزاولة البكاء، ثم يصاب بنوبة هستيرية تستجيب لها الأجهزة الطبية. صوت إنذارات يعلو غرفة العناية الخاصة، يهرع على أثرها الأطباء والممرضين، يمسكون به، فيأمرهم الطبيب بحقنة مهدئة أخرى يقاومها دون جدوى، تسكن جوارحه، ثم تتوارى عينه خلف السكون.

يستفيق مرة ثالثة على ضجيج مترف من حوله، وجسده الذي تهزه يدان بقوة، أصوات زئير سيارات رياضية، يتلفت بذهول، يتذكر أمر ساقيه فيتلمسهما بسرعة خاطفة، ليجدهما لم يراوحان مكانهما. يلتفت ليجد صديقه يمسك بكتفه ويهزه، ويردد بشكل مستمر أين ذهبت يا عزيزي، أبو وليد سيرفع إشارة البدء، ويشير للناحية الأخرى، ينظر إلى حيث المشار، ليجد منافسه يحدق في وجهه، فيتشتت ذهنه من هول المفاجأة، يفلت المقود من يديه، يقرص جسده ويتفقد قدميه تارة أخرى، ثم يشير لأبو وليد بأنه منسحب، وأنه لا يريد إكمال السباق.

تعلو الأصوات الصاخبة الرافضة للانسحاب، وتعلو الهتافات والتشجيع وأصناف الإهانات والشتائم، الجو مشحون بالغضب والكراهية. يحاول صديقه أن يقنعه بعدم الانسحاب ويخبره أن انسحابه ليس رجولة، وأن الجميع سيعايره وينعتوه بالفتاة، ولكن دون جدوى، كان يتصبب عرقًا شاخصة عيناه، مختبئة عروقه ومنحسر. يمضي نحوه أبو وليد، يناوله قارورة ماء، ثم يهمس في أذنيه بكلام طويل، كلام طويل جعل ملامحه تتغير مرارا وتكرارًا، ففي لحظة يكاد يتمسك برأيه وفي أخرى يبدو أن رأيه يتأرجح على كف عفريت. ينهي أبو وليد كلامه؛ فيهز هو رأسه، يبتسم لصديقه، ثم يرفع رأسه بتبج تام وهو ينظر لمنافسه ويشير إليه بيده مقلوبة قاصدا أنه في عداد الخاسرين.

أبواب

internal-oak-doors-categories-directdoors1

حملت نفسي على مهل كي لا أيقظ رائحتك، تلمست موضعك من فوق الغطاء بهدوء تام؛ لم أكن أود أن ازعجك. نهضت ومشيت على أطراف السكينة، خشيت أن سمعك لازال مستفيقا هنا. لبرهة نظرت إليك، لم تكوني مستيقظة، ولم أفشل حال كل مرة اضعضع نومك الرشيق، وأبدد حلمك الأنيق. امسكت بالمصباح اليدوي، ففي كل مرة اضيء نجوم الغرفة، كنت تتقلبين وتنزعجين، وتحاولين نفض الضوء بعيدا عن عينيك. بحثت بكل روية وبكل ما أملك من سكون عن ثيابي التي بها خليط من عبقك وما تركه آخر عناق من رائحتي. سحبت سترتي، بنطالي، وحملت معهم ربطة عنقي وهممت بالخروج من غيمتنا.

كان أصعب مهمة أن افتح قفل الباب دون أن يصدر صوت رصاصة حال كل مرة، حمدت الرب أنني خرجت بسلام من مأزق ازعاجك. وضعت ساقي اليسرى كعادتي قبل اليمنى، لا أعرف كيف أعتاد ارتداء اليمنى دون اليسرى حتى لا يرتدي الشيطان السترة معي، أو هكذا قالوا لنا، لا أدري كيف أصنع ذلك وأنا اشعر بعدم الراحة والاتزان. وبعد أن انتهيت من ارتداء سترتي بدأت اضع ربطة عنقي، لا تعلمين كيف تعبت كفاي وهي تحاول افهامها لغتي، هي اعتادت لغة اصابعك اللطيفة، وملمس اياديك الناعمة، وشعور الحب الذي تخلقينه وأنت تربطينها، إنتهى بها الحال مختنقة بين يدي وعنقي، يستغيث منظرها بك.

فتحت الباب، لم تكوني مستيقظة بعد، زحفت حتى وصلت إلى مهدنا، مددت يدي لتصل إلى الحذاء دون جدوى، فأنزلقت برأسي تحت السرير، وبعد مهمة صعبة للوصول إليه، أمسكت به أخيرًا، وما ان قمت بسحبه، حتى رفعت رأسي معلنا انتصاري، وفي ذات اللحظة، أعلن السرير ارتطامي. امسكت صوت الألم وأنينه، وسحبت رأسي بعد أن تأكدت أن صوت ارتطام رأسي لم يوقظها. وعلى مضض تواريت خلف باب الغرفة، واستقبلني باب آخر.

قلبت المطبخ بحثا عن شيء يؤكل، لا شيء هنا لا تستطيعين أن تجعلي منه طبقا فاخرا، فأي شيء تعدينه يقطف من حلاوتك عنبة. عدت إلى الغرفة، ولكنني لم أجدك، هل أطلت المكوث وجددت في البحث حتى أنك خرجت دون أن اشعر بذلك! ذهبت إلى الحمام وطرقت الباب، فعلاقتك الصباحية به وطيدة، لم تصدري صوتًا من خلف الباب، امسكت المقبض وأدرته فإذا به مفتوحٌ ولا أحد بالداخل، ظننتك تختبئين مني خلف الباب حال كل مرة، لم تكوني هناك. خطوت نحو الصالة لم يكن لرائحتك أثر. توترت كثير فجريت نحو الغرفة المجاورة، ناديتك ثلاثا فلم تجيبي، خفت، وخفقت، وبدأت روحي ترتطم بقلبي بشدة، جريت نحو الشارع فلربما خرجتِ دون أن اشعر، وبينما أجري نحو باب الشقة تعثرت بالفوضى العارمة التي حلت بالمكان. ارتطم رأسي بالأرض بقوة، أوجعني ذلك بشدة، ذهب بتركيزي وأعاد لي ذاكرتي، فاستيقظت من خيالاتي وتذكرت أنك لست هنا، تذكرت أنك رحلت.

حملت حقيبتي المثقلة بالغياب والاشتياق، ادرت مقبض الباب وسحبته، تمنيت لو أن بابي يفضي الى بابك، يحملني إليك ع ظهر أمنية، أو فوق كف دعاء، ولكن الأماني قلما تتحقق، والدعاء قلما ينزل من السماء.

رقصي مع الشاي

228576_10150241774165446_703787_n

كنت أستقي الشاي كعادتي عند زاوية المحل المقابل لأحد المراكز التي لم أقرأ يومًا لوحتها، فغالبًا لا تشغلني الأسماء والعناوين، فقط الأشكال والصور والنصوص الطويلة والفتاة الجميلة، من منا لم يحدق يومًا بالفتيات أثناء جلوسه في مطعم، مقهى أو حتى في مكتب، فالنساء زينة الحياة وطعمها السكري الذي لا يزول، هي أطيب للأنف من القهوة، وأطعم من الشاي للفم.

أخذت أتأمل المارة بين الحين والآخر علّ آنسة جميلة تمر فأحظى برشفة من كأس جمالها فأنتشي بالحسن وأسكر بالنظر. أنظر لهذا وأحدق بتلك، كلٌ منصرفٌ لهمه. تمر الكثير من الفتيات دون أن يعبأن بنظراتي، فهن لا يلتفتن لرجل اعتيادي، كما هو الحال معنا، فمن لا ترى أخلاقك، لن يهمها سوى شكلك، أما الرجل ففي غالب حالاته لا يرى سوى الشكل. غريب أمر الإنسان، فبينه وبين نفسه يقر ويعترف بالكثير، ولكن أمام الآخرين يمارس الفضيلة والمثالية والكمال.

نفضت أفكاري وأنا ابتسم وأكاد أقهقه، فأحاديث النفس مضحكة أحيانًا؛ تجعل الفرد يغدو كالمجنون في حضرة الناس. لا أدري من الأحمق الذي قال: الضحك من غير سبب قلة أدب. فمن هذا المعتوه الذي سيضحك دون سبب، نحن نضحك على حماقاتنا، على أفكارنا المجنونة، على خاطرة طريفة مرت بنا، لا أحد يضحك دون سبب، هو يضحك ولكننا فقط لا نعرف السبب، وقد لا يضحكنا حتى ذلك السبب.

وبينما لازلت أزاول رقصي مع الشاي، أحاور نفسي تارة، وتحاور أعيني الجميلات تارة أخرى، توقفت سيدة مسنة وغمزت لي، ولهول صدمتي كدت أختنق بالرشفة التي في فمي، فبصقتها في صحيفة الرجل الذي جلس بمقربة مني دون قصد، فإذا بها تضحك وتكشف وتخفي فمها بيدها عن خجل، أخرجت الملعقة بسرعة من بين رمال السكر، أنظر في قعرها لانعكاسي، لا أذكرني تجاوزت الثلاثين فما بها فتاة الستين تعاكسني؟

غمست الملعقة مرة أخرى في تلك الرمال الحلوة، ورفعت رأسي لأنظر إليها عاقداً حاجبي الأيمن بأخيه الأيسر متعجباً؛ فإذا بها تلوح بيدها، شعرت ببعض الشفقة ناحيتها، فارتأيت أن أكون لطيفًا ولبقًا، فابتسامة تدخل الفرح في قلبها قد يعيد لها الحياة ويحيي الطفلة التي بداخلها، فالمرأة وإن هرمت لا تتغير أحيانًا، فكلهن يرغبن في أن يمتدح لبسهن، جمالهن، وعناقيد الذهب المتدلية من أعناقهن، فكل تلك الاثمان الباهظة التي تكبدوها ليظهروا بهذا الشكل تستحق بعض اللطف والشفقة أحيانا، رفعت يدي وما أن لوحت حتى مرت عصاً تحمل كهلاً عن يميني، نعم هكذا حقًا مر بقربي وهو المعني بكل تلك الابتسامات والتلويحات ولم أكن المعني، وتلك الشفقة أنا حري بنيلها.

للأسف استدعت يدي انتباه الجميع، بدوت بيدي الملوحة كالمغفل، وبوجهي الذي أصابه الخجل كالمهرج، لحسن الحظ كل من في المكان انتبه إلا صاحب جريدة الشاي، والذي أوشك أن يصل للصفحة الأخيرة ويكتشف أمري؛ فقلت بصوت عالٍ ملما ما بقي من ماء وجهي: الحساب أيها النادل. وانصرفت دون أن أكمل رقصي مع ذلك الشاي.

رصاصة خلاص

ft43

جلس على الأرض وقد طوق جسدها بيده اليمنى، وهو يصوب المسدس باتجاه رأسها، كانت يده ترتعش، وعينه تحاول أن تمسك الماء من أن يندلق من كفها. كان يعلم أنه لا يملك خيارًا آخر، وكانت تعلم أنه يفعل ذلك لأجلها، على يقين أن تلك اليد المرتعشة الحاملة للموت، هي ذات اليد التي كانت تمسح على وجهها وتمسك بكفها، وتربت على كتفها، فقد جلسا يقلبان الأفكار في غمرة الفزع الذي اجتاحهما، حيث جاء الخبر مزلزلًا كشهاب ارتطم بالأرض، ومظلمًا كمساء لا يحمل قمرًا بصق في وجه السماء؛ ففي منتصف شباط من العام 2014 كان جيش العدو قد سيطر على قطاع كبير من العاصمة، وكان يمشط المنطقة بمعنى الحرف والكلمة، لذا حاول الناس الهروب نحو الجبل، لكن كل تلك المحاولات باءت بالموت. لم يبق من مفر، الناس ضحية أسلحة في يد جندي لا يعرف سوى لغة الذخيرة والدم، كانت البيوت تمشط تباعًا، من أقصاها إلى أدناها، إن كان قاطنوا الديار رجالا، غادروا الحياة، وإن كن نساءً غادروا الحياء تحت أجساد الجنود المتعطشين للموت وأجساد النساء.

كانت الأخبار تأتي من أطراف المدينة، تهز القلوب من بشاعة ما يسمع، رأس يغادر صاحبه، جسد تملؤه ثقوب سوداء تسيل منها الدماء، فساتين ممزقة تقتل صاحبتها مرتين، مرة دون سلاح، وأخرى برصاصة تنهي تلك المعاناة التي جثمت مكشوفة لعشرين جنديًا، بل وربما أكثر.

لم يكن من هؤلاء من يظن أن الحياة ستكشف لهم عن وجهها النتن المخيف والذي كانوا يشاهدون جزءَ منه في التلفاز، أو على شاشات هواتفهم، لم يكن أيًا منهم يظن أن الموت سيأتيه بهذا الشكل المقيت المظلم، لم يكن الموت حاضرًا في صدورهم أصلًا، فالبشر يعيشون في وهم الخلود والأزلية الخيالية، وأما هذا الموت المجرد من الرحمة، لم يكن مدون في سجلات ظنونهم أو تحت إغفاءات عيونهم. هكذا تبدلت الحياة في المدينة، هرب الفرح من ثقوب القتلى وحطام البيوت، لم يعد من رائحة أقوى من رائحة البارود، ولم يعد من لون أكثر تهندما من الأحمر. لم يبقى في العاصمة سوى تلك البيوت التي لم يقوى أهلها على الرحيل والهرب، وقد اقترب الجنود وصود الرشاشات يهز القلوب، وصوت الصراخ والإستغاثات وبكاء الأطفال المختلط بصوت الدبابات هو الصوت السائد البائد.

أخذ يحدق بها وهي تغمض عينيها التي لا تملك من قوة لتوقف ذلك المطر من الهطول، ولا تلك الطفلة بداخلها من النحيب، وفي لحظة تراجعٍ همست له: أليس من الممكن أن نسلم أنفسنا، ربما لو توسلناهم سيتركوننا في حال سبيلنا، فنحن لم نعادي أحد، ولم نحمل بين أيدينا دم إنسان، كنا نحيا دون أن يشغلنا أو نشغل بنا أحد. يمكننا.. يمكننا أن نقايضهم بالذهب الذي تركته لي أمي، أعلم أنه قليل، ولكن..ولكن سنقسم لهم أنه كل ما نملك. كانت تردد تلك الكلمات وهي تعلم أن أيّا من هذا لن يجدي نفعًا، كانت تدرك فالأخبار كانت تأتيهم من أولئك الفارين من الموت، والذين ظنوا أنهم خدعوا الموت ثم باغتهم برصاصة خائنة في ظهورهم. كانت تقولها بصوت الطفلة التي بداخلها، وكان هو يراقبها بعين فاقد الحيلة اليائس البائس الباكي.

ظل يذكرها بتلك الأيام التي عاشاها معًا برفقة بعضهما، خمس سنوات من الحب والعشق والهيام، والطفولة والشقاوة وما كانا يَعُدانه شقاءً، أما الآن فهو الرحمة الإلهية مقارنة بالمجهول الذي ينتظرانه ويهولانه، وكيف بهما لا يهولانه، فالحرب تأكل الأخضر واليابس، ولا تعبأ بالحب ولا الإنسانية، وتختزل كل مشاعر البشر في كراهية الآخر والعداء له، وترجح المصلحة على الرحمة ومشاعر الإنسانية الطاهرة المقدسة، وتبجل الجماعة والطائفة، وتعادي الفرد والشفقة والآخر.

أخذ يتغزل بها، ويداعب شعرها بيده التي لا تحمل صوت الموت الذي اختاره لها. ارخى المسدس وانزله من رأسها، أرسل بصره إلى النافذة فعاد الرسول بخبر الأفواج التي تلوذ بالفرار وخبر أولئك الذين يتساقطون تباعًا. استجمع قدرته على الكلام وقال: حبيبتي، تعلمين جيدًا أنني أصنع هذا لأنني أحبك، ورحمة بك مما قد يفعله هؤلاء المتوحشون بك، لا أريد لأنسي أن يلمسك سواي، وأظنك لا تريدين ذلك، لا أريد لجسد أن يدنس طهارتك، ولا أن تعيشي بذاكرة نتنة تطاردك كلما تصفحت حياتك. لا أظن هنالك حلٌ أفضل من هذا. أجهشت بالبكاء وأمسكت يده وضمتها لصدرها هي والمسدس، قبلت يده وبللتها بدموعها، أغمضت كلتا عينيها، وبقيت هكذا دون حراك، يصدر منها أنين أدمى قلبه فبكى، وجلسا على تلك الوضعية حتى بدأ صوت الرصاص يرتفع شيئًا فشيئًا.

ارخت كفيها لتطلق يده، لم يكن يملك من قوة أن يفعلها، كانت يده ترتعش، وقلبه يخفق بقوة، أدارت جسدها نحوها وهي تتخلص من طوقه جاثية على ركبتيها وكفيها كهرة، تناولت ابتسامة مزيفة كان قد ألقاها الموت كآخر هداياه لهما، واخذت تمسح دموعه وهي تهمس له بتودد: يا حبيبي، أعلم أنك تحبني، وصدقني لن أكرهك، بل بالعكس، خلصتني من كل تلك الكوابيس التي طاردتني، من كل تلك الخيالات التي أسرتني، من كل تلك الأحزان التي كانت لتتلبسني. أنت كنت ولا تزال بطلي، هيا فلا وقت لدينا نضيعه. امسكت كفه ورفعت المسدس ناحية صدغها، ثم أغمضت عينيها. وذرفت آخر دموعها قبل أن يعلو صوت الخلاص معلنًا نهاية قصتها، نهاية معاناتها المؤجلة، نهاية خطاياها القادمة، نهاية زلاتها المحتملة. غادرته وتركت خلفها جسدًا مضرجا بالموت، هاربة من موتٍ أقسى منه، أخذ يصرخ بصوت عالٍ وهو يحتضن جسدها الذي سكنت كل جوارحه ومفاصله. أخذ يمسح بيده الآثمة شعرها الليلي الملطخ بالقرمزي. لا عليك يا عزيزتي لن أتركك وحدك، وكان البكاء هو سيد الموقف.

وبعد أن اكتفى من البكاء ومسح آخر دمعة حية انسكبت على خده، أدخل السلاح في فمه، وكانت تلك رصاصة خلاصه، أمسك خياله بخيالها ورحلا من ركام المدينة التي رضخت لأصوات الرصاص ونضحت بألوان الموت. طرق عنيف تلى صوت الرصاصة الأخيرة، دخل مجموعة من المسلحين مشطوا البيت بحذر، أشار أحدهم إلى قائد المجموعة وهو ينظر لجثتين أحدهما لامرأة لم تفارق ملامحها الثلاثين، ورجل لم يعرف شعره لونًا سوى الأسود، سيدي يبدو أننا تأخرنا بضع دقائق. رفع قائدهم قبعته وأخذ يهز رأسه بحزن وهو ينظر نحو الأرض. أحد المسلحين بصوت عالٍ: سيدي كان هذا آخر منزل يمكننا إخلاءه لإخراج المدنيين من ساحة القتال إلى المخيمات، هيا بنا لم نعد نملك الكثير من الوقت، والذخائر لا تكفي لمواجهة العدو. ارتدى القائد قبعته، نظر بشفقة نحو الجثتين المتعانقتين، وهمس قائلًا: قتيلا حبٍ أم حرب، لم أعد أعلم الفرق بين وجوه الموت في هذه الحرب. التفت أحدهم ناحيته وقال: هل قلت شيئًا سيدي؟ لا شيء، هيا بنا فقط فهذه أقصى نقطة لنا، ليس مقدرًا لنا أن ننفقذهما، راهنا على رحمة الموت عوضًا عن رحمة القدر، فكان الموت قدرهما. هيا بنا.