الخيار الأفضل !

DSC_7075

جاء خبر قبول تعيينه في وظيفة مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه؛ مما جعل فرحته بهذا الخبر ناقصة، فالمشروع الذي يفكر فيه يتطلب منه أن ينتقل إلى أحد الدول المجاورة، وبذلك يكون من المستحيل عليه أن يقوم بفعل الأمرين معًا. أصبح الآن في مفترق طرق وعليه أن يختار، إما الوظيفة المرموقة، وإما المشروع الواعد الذي كان يخطط له مع أصدقاءه لفترة طويلة.

استشار الجميع بهذا الصدد ولكنه لم يحصل على ردٍ مقنع، فأحدهم يخبره بأن الوظيفة أفضل والآخر بأن المشروع أفضل، وكأن الجميع اتفقوا على أن تكون الحصيلة هي تساوي الأصوات، وبقي صوته وحيدًا، عالقًا في المنتصف. أرهقه التفكير على مدى عدة أيام، وتمنى لو أنه يستطيع استبصار المستقبل ومعرفة أي الخيارات ستكون نتائجها كما يرجو، حياة سعيدة وممتعة وناجحة. كان ينام ويستيقظ وهو حائر بين الخيارين، حينها قرر أن يرمي بالنرد، ويجعل أحدهم يختار نيابة عنه، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أعلم أنه من الجنون أن اطلب هذا ولكن أنا محتار بين خيارين، ابتسمت وقالت: إذا اختر الأول. ضحك وقال: ولكنني لم أخبرك ما هي الخيارات. ابتسمت وقالت: أليس الأول دائمًا أفضل؟ حينها أدرك أن هذه الفكرة ليست جيدة، فقبلها ومضى.

الخيار الأول دائمًا أفضل، بقيت تلك الفكرة تراوده طوال الوقت، حينها شعر بأنها إشارة من السماء بأن عليه أن يختار الوظيفة، وكان ذلك.

سافر أصدقاؤه، وانشغل هو بوظيفته الجديدة، أخذ يترقى في سلمه الوظيفي، حتى أصبح رئيسًا للقسم الذي تم تعيينه فيه بعد عشر سنوات، كانت تلك العشر سنوات صعبة ومرهقة بالنسبة له، الكثير من الاجتماعات والسفريات والعمل، لم يكن يلتقي بأحد، فلم يملك متسعًا للوقت ليكون علاقات خارج إطار العمل أو حتى أن يتواصل مع أحد سوى مجموعته التي باشرت المشروع والتي انقطع عنها بعد عدة سنوات.

جاءه اتصال في أحد الأيام، كان صديقه رامي يخبره بأنه في إجازة لزيارة الأهل وعاد معه أثنين من أصدقائه. سر جدًا بالخبر، واستطاع أن يوجد متسعًا من الزمن للقائهم، جلسوا في أحد المطاعم يتناولون الغداء والمشروبات، ويسرد كلًا منهم ما جرى في العشر سنوات الماضية، لم يستغرب كثيرًا من النجاح الذي بلغه المشروع ومدى توسعه، أخبره رامي بأنه قد تزوج وأنجب طفلين، وسأله عن حاله، كان سعد شارد الذهن، فقد كان يشعر ببعض الغبطة والغيرة، فكل ما جناه من عمله هو الكثير من التعب، حتى أنه لم يجد مساحة ليبحث عن شريكة حياة، لأنه لم يشعر بأنه يستطيع الاستقرار بعد. في ذلك المساء عاد حزينًا يفكر كيف كان حاله لو أنه اختار السفر مع أصدقائه.

استيقظ في اليوم التالي وقد جاء خبر قبول تعيينه في وظيف مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة، في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه، وبعد تفكير طويل في الأمر وحيرة وأمانيه بأن يستبصر المستقبل، قرر في النهاية أن يرمي بالنرد، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أنا محتار بين خيارين، ابتسمت وقالت: إذا اختر الثاني. ضحك وقال: ولكنني لم اخبرك ما هي الخيارات. ابتسمت وقالت: أليس الثاني دائمًا أفضل؟ حينها أدرك أن هذه الفكرة ليست جيدة، فقبّلها ومضى.

الخيار الثاني دائمًا أفضل، بقيت تلك الفكرة تراوده طوال الوقت، حينها شعر بأنها إشارة من السماء بأن عليه أن يختار السفر، وكان ذلك.

سافر مع اصدقاءه، واجهوا صعوبات كبيرة في تأسيس الشركة، ولكنهم استطاعوا أن ينجحوا في ذلك، كانت الفترة الأولى من التأسيس مزدهرة، ومكللة بالنجاح، ولكن مع الوقت بدأت الخلافات تدب في المؤسسة، وتم فض الشراكة، وانفصل هو وصديقه رامي وقاموا بتأسيس شركة أصغر، كانت بالكاد تدر عليهم بعض الأرباح، وبعد عدة سنوات قرر العودة إلى بلده، وأثناء رحلته كان لديه الكثير من الوقت ليفكر في الطريق الذي سلكه وكيف أنه ضيع عليه فرصة وظيفة مضمونة في شركة مرموقة من أجل مشروع لم يكتب له النجاح، وعليه الآن أن يبدأ مرة أخرى، وصل إلى البيت عاد وأخذ يحدق في السقف وأمنياته لو أن الزمن عاد به واختار أن يعمل في الشركة.

استيقظ في اليوم التالي وقد جاء خبر قبول تعيينه في وظيفة مرموقة في أحد الشركات الكبرى في العاصمة، في وقت كان يخطط فيه أن يبدأ مشروعًا مع مجموعة من أصدقائه، وبعد تفكير طويل في الأمر وحيرة، قرر أن يرمي بالنرد، ذهب إلى أخته الصغيرة وقال لها: أريد منك مساعدة، أنا محتار بين خيارين.

هكذا يولد قمر جديد

100993308_4071555072855447_50682748818165044_n

رآها عند آخر رصيف في المدينة، ترتدي فستانًا أسودًا، كانت تمسح حزنها وهي تمضي مسرعة باتجاه طرف المدينة، ذهب خلفها فإذا بها تكمل سيرها على الرمال، استعصى عليها أن تسير بهذا الحذاء الرفيع، فخلعته ورمته، حاول أن ينبهها من خطر الذئاب التي تأوي وتعوي هناك، فأخذ يناديها دون ‏جدوى بل جعلها ذلك تهرول محاولة الإبتعاد عن مصدر الصوت دون أن تنظر إليه، كانت وهي تركض تضع يدها أسفل بطنها، هناك كان يسكن الكثير من الألم والكراهية والخوف، كانت تعلم أن هذا العالم لن ينصفها كما فعل مع ابنة عمها التي قتلها والدها رغم أنها كانت ضحية ميتتان، الأولى ممن اغتصبها، والثاني من أطلق رصاصة عليها.

وصلت إلى قمة جبل ‏بين الكثبان، وقفت على حافته وكانت ليلة بلا قمر، والنجوم تزين كل تلك السجادة السماوية، وقفت تتأمل المشهد، أخذت نفسًا عميقًا من مكانها ذاك، هنالك شعرت وكأنها تنفست لأول مرة. بينما هو يهرول خلفهًا وصل إلى سفح الجبل، وأخذ يناديها خوفًا من أن تلقي بنفسها منه، لكنها لم تصغي إليه ‏فقد كانت تصغي لصوت الحياة الذي يولد بداخلنا حين نجالس الظلام. وصل إلى قمة الجبل، وما أن رفع رأسها ناحيتها حتى سقط الفستان، وولد قمر فجأة في كبد السماء. بحث كالمجنون عنها ولم يجدها، أخذ يصعد وينزل دون جدوى حتى حل الصباح. أخذ الفستان وكان به شيء رطب، انتبه إلى أنها دماء، وعاد إلى بيته.

في اليوم التالي ‏‏سأل الناس أن يبحثوا معه عن فتاة مفقودة، وأخذ يصف شكلها، طويلة ورشيقة، وجهها كملاك يضي تحت مصابيح الطريق، شعرها أسود كلون سماء الأمس. لم يتعرف عليها أحد، ولم يصدقه أحد، وكان يقسم أنها حين اختفت ولد قمر جديد، ظن أهل المدينة أن الرجل جن جنونه فلم تكن ليلة قمرية أصلًا، ‏رغم أنه كان يقسم بكل ما يعرف ليصدقه الناس.

بدأ يذاع أنه فقد عقله، ولكنه كان مصممًا أنه ليس مجنونًا. لم يكف أبدًا عن البحث عنها، وكان يضع الفستان كل ليلة قمرية في قمة الجبل علّ القمر يستعيد فستانه يومًا ما.

هل تعرف من أنت؟

96138681_10158123381220446_5668718108953542656_o

أولئك المنشغلون بالحياة ومتعها محظوظون جدًا، فهم بعيدون جدًا عن البحث في أكبر معضلة بشرية تطاردنا؛ أن نحاول أن نفهم من نحن. هم بكل بساطة منشغلين بالحياة للحد الذي يفقدون اتصالهم الحقيقي بأنفسهم، إلى الحد الذي يعتقدون أنهم يفهمون أنفسهم جيدًا. ولكن في الجانب الآخر، هم لا يفهمون من سيكونونه غدًا، فهم بذلك يعانون من نصف المشكلة.

من الحماقة بمكان الاعتقاد بأنك في يوم ما ستعرف جيدًا من أنت، لأن هذه رحلة أزلية لا نهاية لها، تجد فيها الأسئلة التي لا يوزع عليك الوقت إجابتها. وما يرهق في هذه الرحلة أنك تنظر إلى المرآة ولا تعرف تحديدا من ذلك الوجه الذي يحدق بك، هل هو ذلك المخادع الذي يجيد الحديث، ذلك الماهر في ارتداء الأقنعة بحسب الزمان والمكان، أم ذلك النرجسي الذي يرى نفسه الأفضل وأن العالم كله تحت ساقيه، أم ذلك العاشق الغارق في الحب حد الكتمان، أم هو ذلك الضعيف الذي يجعل الآخرين يملون عليه ما يفعله، فهو لا يجيد فعل شيء سوى محاولة إرضاء الآخرين عنه.

ولا تقف الأسئلة هنا، فهذه مقدمتها فقط، فأنت تفتح كل الصناديق التي حولك لتسأل عن احلك أفكارك، ما الذي حققته وما الذي أصبحت عليه، هل استحقه أم كل هذا نتاج أكاذيب نسجتها لأقنع الآخرين بأنني جيدٌ كفاية. كيف سأكون وما الذي سأكونه غدًا، هل عليَّ تصنع الرضا. ما الذي أحاول الهرب منه؟ هل يمكنني الاحتفال بهذا الإنجاز؟ هل أنا وحيد وكل من أعرفهم مجرد أرقام امر من خلالها دون مبالاة. متى سأموت وكيف ستبدو الأماكن والقلوب من بعد رحيلي! هل سيفتقدني الناس أم كل تلك مجرد مشاعر عابر ستتلاشى مع احتضار آخر دموع الفقد وآخر تلاويح الوداع.

كل الإجابات التي نختلقها لا تصلح لأن تملأنا؛ فهي غير مقنعة، وإلا لما عدنا إلى المرآة نراها وترانا، ونهرب منها فترانا ونتصنع عدم رؤيتنا لها مرارًا وتكرارًا.

الهروب المستمر من هذه الأسئلة من خلال التفكير في أمور أخرى مثل الألعاب والمسلسلات، الطبخ والعمل الكثيرلا يجدي نفعًا، بل سيفضي بك إلى القاع، القاع نفسه سيحملك إليه عدم حصولك لى وقتٍ كافٍ من الانشغال، سواء بهواية، وظيفة أو تعليم؛ حتى جلوسك في المكتب بلا وجهة محددة يجرك ببطء نحو ذات القاع؛ لذلك تحتاج إلى توازن مستمر بين احتياجاتك، وانشغالاتك والجلوس مع انعكاسك.

احتياجك للإيمان، للأكل والشرب، والعلاقات. وانشغالاتك بالمشاريع، بالوظيفة أو حتى بالهواية، واخيرًا التأمل في ذاتك للتفكير في إجابات أفضل وفهم لجوانبك التي تتغافل عنها. وكأننا نقول، ثلث لاحتياجاتك، وثلث لانشغالاتك، وثلث لنفسك.

أن تهمل أو تتخلى عن إحداها وتعول على الباقي قد يكون له عواقب مكلفة، لينتهي بك ذلك إلى مربع واحد. قد يتطلب الأمر منك عدة أسابيع أو شهور حتى تدرك أجزاء مهمة تخطو بك نحو تصحيح مسارك وفهم جزء من ذاتك، تتعلم كيف تتخذ قراراتك، كيف تباشر الأعمال التي اهملتها، كيف تنهي مشروعك، كيف تسعى لأهدافك.

حين تنظر لنفسك في المرآة فإن ما قد تستطيع فهمه هو من/ما كنت عليه في الماضي، لكن أكبر مشكلة قد تقع فيها هي أن وجوها أخرى قد تتبدى لك في المرآة، أخوك الذي تظنه أحظى منك، زميلك الذي تعتقد بأنه أفضل منك، صديقك الذي تراه أسعد منك، وجارك الذي تتخيل أنه اشد ثراء منك. تأملك في هذه الوجوه طويلًا سيكون أكبر خنجر تغرزه في عزيمتك، وسببًا في بعثرة قطع الأحجية الناقصة اصلًا والتي تفسر جزءًا منك؛ لذلك من الأفضل أن تمسح المرآة جيدًا ولا تترك سوى انعكاسين لك، انعكاسك الذي تعتقد أنه أنت الآن، والآخر ما كنت عليه في الماضي.

في تلك المرحلة قد تجد أن أحد أسباب عدم ادراكك هو أنك لا تحمل أهدافا، أو لأنك تتجاهل مهاما كثيرة خشية ألا تجيد انهائها، كرواية لم تكتب، كتقرير لم تبدأه، تخشى من ذلك الظلام الذي يتخلل ملفات ومستندات عملك، أو ذلك البياض الذي تعكسه صفحاتك البيضاء الخاوية. أغلبنا يحمل مهمات يخشى القيام بها ويمكنه أن يسير إلى نهاية العالم قبل أن يباشرها، كله بدافع الخوف من الفشل، وهو ما يجعل الكائن المسوف يتعاظم بداخلنا، فنهرب إلى التلفاز والهاتف وألعاب الفيديو وحتى سقف الغرفة، فقط أي وسيلة للهرب من ذلك الألم الذي بين مهامنا المؤجلة.

كل شيء يحتاج إلى خطوات صغيرة، السيارة لا تصل إلى مائة ميل في الساعة إلا من خلال حركة الترس الصغير لناقل الحركة، وهو بدوره ينقله إلى ترس أكبر ثم اكبر حتى تصل لسرعتك المطلوبة. دعني أبدأ بكتابة سطر أو بالجري لخمس دقائق أو قراءة سطرين في اليوم، أي خطوة صغيرة؛ فهذا يعيد الحياة لنا. فبدون تحريكك لترسك الصغير، لن تمضي قدمًا لتصنع شيئًا كبيرًا يساعدك في فهم ذاتك وتغيير حياتك.

عندما تنظر إلى حياتك ومحيطك انظر كما تفعل الأفاعي، فهي تنظر بدون ردود أفعال عاطفية، فقط انظر بدون أن تفكر في رغباتك، طموحاتك، فيما تريده لنفسك وما تحلم به، إنما قراءة الوقائع وتحليلها وتفكيكها وتجريدها من تعقيداتها العاطفية ومؤثراتها النفسية، لتنظر لنفسك وكأنك لا تعرفها، لأنها البداية التي توصلك إلى فهم نفسك على أقل تقدير، وليست معرفتها، وقم بتحدي نفسك لترى كيف تدفع نفسك لمكان أبعد من الذي وصلت إليه، هذا يمنحك القدرة على تجاوز عجزك وانهزاميتك ويرفع معنوياتك لتحدي المرحلة؛ لتخطو لما بعدها.

يمكنك النظر إلى هذا التحدي على أنه مغامرة ما، ستشعر بشيء من العزلة، بكثير من الغرابة والوحدة لأنك معتقل في تلك المحاولات المستمرة في فهم نفسك، ولكنها رغم كل ذلك الطريقة الوحيدة لتشعر بأنك موجود، بأنك على قيد الحياة، وبأن لحياتك معنى.

يمكننا أن نتعلم الحب !

 

DSC_6839-42

تعلم الحب ليس صعبًا ولا حتى مستحيلا، ولكنه أمرٌ مركب للغاية، بحاجة للكثير من المحاولات والصبر على الآخر، للكثير من التجاوزات والمغفرة وحسن الظن، ويحتاج أيضًا إلى قليل من التنازلات والتضحيات والإيثار، ومحاولة النظر للآخر على أن العالم لا يدور إلا حوله ومن أجله. نعم أعلم أنها كلها بديهيات لا تحتاج لأن يخبرك بها شخص متواضع مثلي، فلماذا يصعب علينا فعل كل ذلك؟ هيا بنا نبدأ من نقطة الصفر.

السؤال الذي يتبادر دائمًا هل نحن بحاجة لأن نكون على معرفة سابقة بالطرف الآخر لضمان نجاح العلاقة؟ لن أقول نعم ولا كلا، فلكل قصة أسباب نجاح، الأخذ بها هو السبيل لاستقرار العلاقة. لكن خذ على سبيل المثال لا الحصر علاقتك بطفلك، من العجيب أننا نحب أطفالنا ونحن نلتقيهم للتو، لم نتعرف عليهم من قبل، ولم نجالسهم ولم نتفق معهم ولم نتواصل حتى نخلق علاقة قوية بيننا وبينهم، وكلما كبر الطفل زاد حبنا غير المشروط به. فلماذا إذا نشترط المعرفة السابقة في الزواج للوقوع في الحب قبل الزواج حتى نستطيع أن نحب شخصًا جديدًا، عوضًا عن الظروف التي تجعلنا نحب الآخر، كالقواسم المشتركة والاتفاق والتفاهم والتواصل والمشاركة والاستكشاف.

نعم يجب أن يتأكد الطرفان من قبولهما للآخر، بلا مجاملات وبكل شفافية، ولا تقل لي “ارتحت له” فهذا لا يعد سوى الانطباع الأول، ولا تخبرني أبدًا أنك “تعرفه جيدًا” فحتى ذلك الذي تعرفه جيدًا قد يفاجئك بما لا يمكنك تصوره. ولا تقل لي سأصلى استخارة، فهذه لا تفعلها إلا بعد أن يطمئن قلبك، ويهرول سمعك خلف سمعة الآخر، ويشاور عقلك من حولك ممن تثق به. ثم وبعد أن حزمت أمتعتك، واتخذت قرار وجهتك، يسعك أن تصلي وتستخير وتدعو بما تشاء.

هنالك فرق بين الحب والشاعرية (الرومانسية) الحب شعور مركب لا يمكن ترجمته فقط بمجرد كلمات وحروف تصف على نوتة معزوفة هادئة، الحب تصرفات وردود أفعال ومشاعر مختلفة تتخلق وتتشكل وتتقلب، مستقرها ما بين القلب والعقل، يترجمها اللسان والعينان، وغالبًا كل الجوارح.

الحب ليس يوم الحب، ولا علاقة جسدية عابرة، ولا كلمات عاطفية مستهلكة. الحب يحتوي الرومانسية ولكن الرومانسية وحدها لا تحتوي الحب، إذا الرومانسية جزء من الحب وليست الحب. لذا حين تجد علاقة بنيت على الشاعرية وحدها، فإنك ستلاحظ كيف تتلاشى رويدًا حتى تختفي ولا يبقى منها سوى جروح واغرة، وأحزان لا تمحوها سوى الأيام.

الحب هو تلك التفاصيل التي قد لا تراها، الغداء الذي تتناولانه سويا وأنتما تستعيدان الذكريات، الفلم الذي تناقشانه، اللعبة التي يريد كل منكما أن يكون الفائز فيها، الحب أن يغطي أحدكما الآخر حين يغفو فجأة، الحب هو الإفطار الذي يعده من يستيقظ أولًا، الحب هو انعكاس ابتساماتكما في كوب القهوة، الحب هو المساحة  التي تمنحانها لبعض مهما طالت، الحب هو الخوف من فقدان الآخر، والشعور بأنه جزء مهم من تفاصيلك، الحب هو المساهمة في ترتيب البيت، وإعداد سرير النوم، الحب أن تقتسما الحلوى واللقمة الأخيرة، الحب أن تخفي حاجتك الملحة للنوم وتعبك العظيم من أجل أن تصنع شيئًا للآخر. الحب أن تزيل شيئًا عالقًا في ثيابه أو تنبهه لشيء لم ينتبه له فتكون مرآته وانعكاسا وانعكاسا لحاجته بأن يكون أنيقًا أمام الآخرين. يمكن لكل شيء اعتيادي أن يكون تعبيرًا مثاليًا عن الحب ولكن لأننا ننظر إلى الضفة الأخرى الأكثر اخضرارًا، لا نرى ما هو جاثم أمامنا.

في العلاقة بين الرجل والمرأة، تجد الطرفان مستعجلان جدًا، هم يريدون من الآخر أن يفهمهم بدون كلام، وهذا ما نمى في عقلنا اللاوعي، فالطفل يحظى بالرعاية دون أن يطلبها، يجاهد أهله في محاولة فهم احتياجاته دون أن يتحدث عنها، يبدلون حفاظاته حين تتسخ، يطعمونه حين يشعر بالجوع، يحملونه حين يحتاج للاهتمام، يهيئون له بيئة مريحة ليخلد للنوم، وحين يحتاج لحمام دافئ يوفرونه، وكل ذلك دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ فهما يسعيان جاهدًا لفهم احتياجاته. كبر هذا الشعور فينا حتى أصبح لزامًا على الآخر فهمنا وإن لم يفعل، فكل التأويلات تنصب في “هو لا يهتم، إذا هو لا يحبني”. لذا تذكر، أنك حتى تُفهم، يجب أن تتحدث وتعبر فلم يخلق الله لك لسانا عبثًا، ولا تعتقد أن الآخر ساحر يمكنه قراءة الطالع والأفكار والكف. حتى يمكن للآخر أن يعتذر، أن يبرر أن يلبي أن يُقَبِل، أن يحتوي، عليه أن يسمع ويتفاعل ويلمس ويصغي ويتعاطف، فامنح الآخر قدرة الساحر من خلال التواصل معه.

من السهل رؤية محاسن الشخصية التي أمامنا، ومن الصعب اكتشاف عيوبها عن بعد، فنحن نرتدي أقنعة كثيرة لا نزيلها إلا عند عتبة الباب، هنا خلف الأبواب المؤصدة، تتضح معالمنا الحقيقية، تلك المعالم التي قد تصدم العالم، وتجعله أحيانا يكرهنا، أو هكذا نشعر على أقل تقدير، لذلك نخفيها. يمكننا ان نحب الجمال والجميل، ولكن من الصعب علينا أن نقبل العيوب في الآخر، لهذا، في الزواج؛ فإن أصعب فترة قد يمر فيها الطرفان هي سنوات الزواج الأولى، حيث تتكشف كل الأقنعة. المشكلة ليست في العيوب، بقدر تعاملنا معها، فنحن نتعامل معها على أنها مشكلة كبيرة يجب أن نجد لها حلًا بأسرع وقت ممكن، لهذا نجد أنفسنا في معارك يومية مع الآخر في محاولة تغييره، وعندما نجد أنها مسؤولية كبيرة، نقرر الانفصال. التغيير شيء يحتاج للكثير من الوقت الذي يشعر الطرفان أحيانا أنهما لا يملكانه، على عكس المدرس، فهو ليس لديه سباق مع الوقت في تعليم الطالب حتى ينجح، فإن فشل الطالب فهنالك سنة ثانية وثالثة، بينما في العلاقة الزوجية نريد نتائج فورية وسريعة يمكن ملاحظتها، رغم قناعتنا الشخصية أن التغيير شيء لا يحدث فجأة وبسرعة، لذا حين يحتد النقاش ونتوتر ونصرخ ونتشاجر حتى على مكان الجوارب المتسخة.

قنوات التواصل الاجتماعي نقشت شكلًا جديدًا من الحب لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، روجت للحب على أنه تلك اللحظة الشاعرية التي لا تنتهي ولا تتغير ولا تتبدل ولا تُمل. فاللحظة التي تختزلها صورة، تبقى في عقلنا الباطن أكثر مما ينبغي، فتجعل الآخرين يبدون أكثر سعادة، وأشد حبًا، وأعظم رومانسية، إنها لتبقى للدرجة التي يصبح بإمكانها محو كل لحظاتك السعيدة وتجعلها تبدو بلا قيمة. من الطبيعي أن يضع أحدهم لحظاته السعيدة، والسعيدة فقط، من يريد أن يكون ضعيفًا أو حزينًا أو وحيدًا أمام الآخرين! يمكن لزوجين أن يظهرا للعالم أجمع كم هما متفقان، وسيصدقهما العالم كله إلا أنفسهم التي تخلد معهم على ذات الوسادة، لذا تذكر، لا تأخذ كل ما تراه على محمل التصديق، فكل ما يعرض هو من أجل العرض ليس إلا.

لذا يتضح بأن المجتمع رسم تصورات صعبة للحب لا يمكن تطبيقها ولكن يمكن تمثيلها وتدوينها واصطناعها، بأن المتحابين يعيشون حياة وردية، لا خلاف فيها، يحتضن المحب حبيبه كل يوم، ويغازلها كل ساعة، ويسامرها كل مساء، رغباتهما لممارسة الحب لا تنقطع حتى ليوم واحد، وهو تصور برّاق، ولكنه أشبه بالمعتقل، حيث أن من الصعب تطبيقه، لذلك قسم اليونايون الحب إلى ثلاثة أقسام وهي المشاعر الحسية التي نشعر بها في بداية العلاقة واطلقوا عليها مسمى إيروس على اعتبار أن هذه المشاعر تتلاشى تدريجيًا بعد العام الأول أو الثاني وتلاشيها لا يعني بالضرورة غياب الحب، بل تحول الحب إلى نوع آخر وهو “الصداقة” واطلقوا عليها فيليا وهي لا تعني الصداقة بمفهومها المجرد بل بمفهوم أشد عمقًا لقوة هذه الصداقة ونقائها ومشاعرها أكثر اخلاصًا وصدقًا، فتحول هذا الحب إلى هذا القالب يعني أن الشخص الآخر أصبح متعلقًا للحد الذي يكون فيه مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل أن يعيش الآخر، أن يضحي أن يتنازل أن يقتطع مما عنده حتى يكتمل ا عند محبوبه. أما النوع الثالث فليس عملية مرور من خلال مراحل الحب، بل هي مرحلة خاصة تحدث مع الوقت وهي “قبول الآخر” بعيوبه والتعاطي مع أخطاءه ونواقصه بشعور ممتلئ بالتعاطف، ويرى بعض الفلاسفة أن هذه الكلمات قد تكون أكثر بديل منصف للحب، لأنها تصف شكلًا منطقيًا للحب، بعيدًا عن مجرداته الأدبية وتصوراته المجتمعية التي تجعل الحب لا يحدث سوى في الأفلام والمسلسلات والروايات وصور مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المستحيل أن يحدث بين طرفين يلتقيان للمرة الأولى في موعد مدبر.

غرفة بيضاء

prescription-addiction-black-white-woman

 

 

كانت تحدق عبر نافذة الغرفة البيضاء التي تقبع فيها ممددة على فراش هو الآخر أبيضٌ جدًا، ورغم كل هذا السطوع إلا أن السواد يحيق بكل شيء حولها، فلا تتبدى لها سوى العتمة التي تعيشها، تلك التي ينزف ظلمتها كل الأوجاع التي تتخطف سكونها، والذكريات التي لا تنفك تتكرر بلا توقف كأسطوانة مشروخة تعيد نفسها مرارًا مرًا.

الألم لا يغادر جسدها ورائحة فمه النتنة لم تغادر أنفها وطعم الحزن يعبر حلقها كغصة لا تنتهي، تتحسس أسفل بطنها، تجهش في البكاء، فكل شيء أبعد من أن يكون مجرد حلم، فهو أقبح وأبشع حقيقة قد يعيشها إنسان. فقدت من شدة النحيب واختناق الفرح في صدرها، لم تقوى على التنفس، وغلبتها بشاعة الواقع. أيقظتها يد تكمم فمها همس صاحبها “هششش.. أنا هنا لمساعدتك” كان ذلك بعد ميلاد الدهشة والخوف والرغبة في الصراخ التي اجتاحتها، ثم أردف يقول “سمعت قصتك، وسمعت بكاءك، وأصغيت لحزنك، وما جرني إليك سوى أمانيك الصامتة التي تيممت بها طوال اليومين الماضيين، سأحرر يدي رويدًا، فهل لك ألّا تصرخي؟ لم تستطع تمالك نفسها فصرخت ما أن أرخى كفه، فأعادها من حيث كانت.

تنهد وقال: يبدو أننا سنكمل حوارنا بهذا الشكل، إسمي انكسار، أنا هنا حتى أحررك، ولكن لأفعل ذلك، لدي فقط خياران يمكنني مساعدتك بهما، عليك أن تختاري أحدهما، هزي رأسك إن كنت تريدين معرفة خياراتك. هزت رأسها وقلبها يخفق بقوة، فهذا المشهد يعيدها للقاع الذي خرجت منه للتو. ابتسم وعقب: خيارك الأول أن تفقدي ذاكرة ذلك اليوم كليًا وكأنه لم يحدث، لكن آثاره ستبقى على جسدك كما هي الآن. أما خيارك الثاني فهو أن يشفى جسدك كاملًا ولكن ذاكرتك ستبقى حاضرة، كألم في الخاصرة لا يمكنك الفكاك منه. كنت أتمنى لو كان بإمكاني أن أفعل أكثر، ولكن هذا أقصى ما يمكنه فعله لأجلك. لا أريد إجابة مستعجلة، خذي وقتك لتفكري، أما الآن فأريدك أن تغمضي عينك قليلًا، انصاعت له مباشرة لشدة خوفها، وحين فتحت عينها لم تجده، ولم تجد له أي أثر، كأنه حلم، أو نسمة هواء انسلت من نافذة وتلاشت.

انفجرت باكية، فهرعت الممرضة إلى غرفتها لتعرف ما الخطب، وقفت تسألها ما خطبها، ولكنها لم تستطع النطق بكلمة واحدة، وبقيت على حالها حتى غادرتها الممرضة وبعدها جرّها النوم إليه. استيقظت في منتصف الليل فرأته في حلته البيضاء ذاتها، شابٌ وسيم في مقتبل الثلاثين، يرتدي قبعة ناصعة البياض، كشف عن طقم من اللؤلؤ مختبئ خلف شفتيه النضرتين، وعينان زرقاوان، وذن بني اللون. قال لها: هل اخترت؟ هزت رأسها نافية تجيب عن سؤاله، ولكنها كانت أقل خوفًا منه.

وضع سبابته على شفاهه بينما ابهامه جلس على ذقنه، أخذ يحدق من خلال عينيها ثم قال: أعل أنكِ قد لا تثقين بي، فما يدريك أنني قد لا أفعل ما فعله بك ذلك المجرم الحقير. لن استعجل قرارك فالخيارات صعبة كما قلت لك، سأزورك لاحقًا لأطمئن عليك، ومن ثم سنرى إن كنت ستزاولين هذا الصمت الحزين طويلًا. أغمضي عينيك مرة أخرى، حاولت ألا تفعل لتجد نفسها وكأنها قد أفاقت للتو وقد اختفى ذو السترة البيضاء. حاولت أن تفهم ما الذي حدث، كيف تعثرت بالنوم دون أن تشعر، فخمنت أن كل ذلك لم يكن سوى حلم دفنته في وسادتها.

عادت أمها صباحًا وقد احضرت لها حاجياتها وطعاما كانت قد أعدته لها، وأخذت تعتذر لأنها لم تبت تلك الليلة معها. لكنها كانت شاردة الذهن، تحدق في العدم كعادتها. مر يومان وهي تنتظر ظهوره، ولكن دون جدوى، لم يعد يزورها، شعور كان يساورها ويخبرها أنه ليس مجرد حلم عابر. نظرت نحو أمها وقالت: أمي، هل لك أن أبقى اليوم وحدي. وبعد كثير من الإلحاح والإصرار وافقت أمها على مضض.

حل المساء وحل اليأس ضيفًا ثقيلا عليه، أغمضت عينيها ورموشها تعلن الحداد على آخر أضواء الأمل برؤيته، ولكنها فتحت عينيها بسرعة ليتراءى لها واقفا عند طرف السرير. حاولت الاعتدال في جلستها ولكن دون جدوى، فأخذت تهذب شعرها، بينما جلس هو من حيث كان واقفا. ابتسم وهو يسألها: هل اخترتِ. هزت رأسها وابتسامة في وجهها. ثم فرقت بين ضفتي نهرها، كانت تحاول أن تبوح بشيء، لكن دون جدوى. ودون أن تفارق تلك الابتسامة وجهه قال: أعلم ما الذي تريدين أن تسألي عنه، تريدين أن تعرفي من أنا! صحيح؟ هزت رأسها مسرورة. قال: ليس الآن لاحقًا. ثم أردف يقول: ها، ماذا اخترت، النسيان أم الشفاء التام؟ أشارت بسبابتها لتجيبه. هز رأسه ثم أطرق لبرهة، وقال: اتفهم ذلك، وقد توقعته منذ أن انجبتني محنتك. لا بأس، لك ذلك. اقترب منها ببطء، وضع كفه على رأسها وقال: غدا تنسين كل شيء، كأن شيء لم تريه أو تسمعي به. غلبها النعاس فجأة، حاولت مقاومة ذلك، كانت تقاوم لأنها تملك الكثير من الأسئلة التي تريد أن تسأله عنها، ولكن محاولتها اليتيمة تلك باءت بالفشل.

استيقظت في اليوم التالي، كان البياض يخيم على كل شيء، “هذه ليست غرفتي” كانت تلك أول خاطرة راودتها، قفزت برأسها من وسادتها لتجتاحها الكثير من الآلام المتفرقة. حاولت تحريك قدمها ولكن دون جدوى فقد كان عليها لف طبي، تحسست وجهها بعد أن لمحت لونا أبيض تحت عينها، الكثير من الضمادات كما يبدو، حاولت أن تستوعب ما الذي يجري، أصيبت بنوبة هلع، أخذت تصرخ، وأخذ جسدها يرتجف بشكل لم تعد مه تقوى على الحركة بتاتًا، هرع الأطباء نحوها، وكان الحل الوحيد أبرة مهدئة وكثير من محاولات التطمين والتودد من الممرضات.

دخلت والدتها غرفتها، وما أن رأتها حتى أجهشت بالبكاء وسبقتها بالأسئلة: ما الذي يحدث، لم أنا هنا وهكذا، ما سبب كل تلك الآلام التي أشعر بها أسفل بطني، ما الذي حدث لي أرجوك أخبريني أمي. كانت والدتها في صدمة ممتزجة بحيرة مفرطة، ظنت كأول تخمين راودها أن أبنتها تدّعي النسيان، ولكن حين رأت نظرة الهلع التي تعتريها، أدركت أن هنالك خطب ما. ابتسمت وقالت لها: حادث مروري ولم تزد على تلك الكلمات أي شيء وخرجت مسرعة نحو الممرضات تطلب مقابلة الطبيب.

عادت برفقته وقد أطلعته على ما حدث، أخذ الطبيب يقيس درجة حرارتها وفحوصات اعتيادية أخرى، ثم وجه لها عد أسئلة حول آخر ما تذكره. لاحظ الطبيب أنها لا تذكر شيئًا يخص حادث الاعتداء الذي تعرضت له، لا شيء من الرعب الذي مرت به، ولا شيء من الوحشية التي وسّمت جسدها وعلقت في ذاكرتها، حسب التقارير الطبية أن المجرم لم يكتفي باغتصابها، بل وأقحم أداة حادة أسفل جسدها بعد أن دنسه بجسده القذر. كل تلك الجروح والندوب والنزيف نسيته وكأن لم يكن. كان الطبيب يعيش لحظة ذهول، طلب أشعة مقطعية لرأسها فلربما هنالك إصابة في رأسها تسببت في هذا النسيان، ولكن عادت النتائج سلبية، لا يوجد أضرار في الأجزاء الخاصة بالذاكرة.

دون الطبيب ملاحظاته، وأخبر والدتها بالآتي: سيدتي، يبدو أن ابنتك فقدت ذاكرتها نتيجة للصدمة التي مرت بها بعد الاعتداء الوحشي الذي مرت به، نادرًا ما يحدث هذا الأمر، في محاولة من العقل لتجاوز المحنة. سأطلع الطبيب المناوب بذلك، فقد انتهت نوبتي، وأرى من الأفضل ألا تخبروها بحقيقة الأمر فقد يساعدها ذلك على تجاوز المحنة، وسنبقيها تحت الملاحظة فربما هو غياب مؤقت للذاكرة.

خرج الطبيب ليدخل بعد برهة الطبيب المناوب، امسك بملفات المرضى وقد عاين الجناح كاملًا حتى وصل إليها، أمسك الملف وهو ينظر إليها، نظرت إليه وقد خفق قلبها بشدة، رأت فيه شيئًا جعلها تشعر لوهلة أنها تعرفه، ابتسامة لؤلؤية، ذقن بني، وعينان زرقاوان كسماء ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لأول مرة منذ استيقظت في المستشفى.

الملل النبيل

62209877_10157102768765446_9124442009266814976_n

 

نمضي نصف عمرنا بلا وجه واضحة ولا اتجاهات ثابتة، نعبث منذ طفولتنا بكل شيء، لنتخلص من الشعور بالرتابة، نجرب قدرتنا على التأثير على محيطنا منذ طفولتنا، تجد الطفل مبتهجًا بلعبة تصدر أصواتا كلما قام بتحريكها، أو لعبة ضوئية كلما قام بضغط أزرارها، هو سعيد لأنه ككائن صغير ومتواضع قادر على التأثير على محيطه، نكبر قليلًا ونبدأ في تكسير الأشياء بحثًا عن أسرارها، كيف تعمل، ما الذي بالداخل، ما الذي يجعلها تسير أو تطير أو تضيء. العالم يبدو كبيرًا جدًا والخيارات تبدو لا محدودة، ولكننا ورغم ذلك نشعر بالرتابة، فننزوي بحثًا عن محفزات جديدة نستكشفها ونطرد من خلالها هذا الشعور الذي يدعى الملل.

يقال ملّل فلان الشيء، أي قلبه، لذا فربما من وجهة نظري فإن مصدر الملل هو كثرة تقليب الشيء الذي يفضي للشعور بالضجر، نستطيع بذلك أن نقول باختصار أن الشعور بالملل هو الشعور بغياب محفز يجعل الدماغ منشغلا عن المحيط الرتيب والاعتيادي بشيء يضمن بقاءه يعمل بشكل صحي، ويحدث ذلك عندما تفقد اهتمامك بالعالم الخارجي أو حتى الداخلي لأفكارك،

غالبا عند الشعور بالملل فإن الإنسان يكون حبيس أفكاره وحسب، ولهذا يبدأ في البحث عن محفزات من محيطه، في تجربة قام بها صاحب قناة اليوتيوبVsauce   المدعو مايكل، قام بحبس نفسه في غرفة لمدة ثلاثة أيام، غرفة بيضاء جدًا، كل شيء فيها أبيض حتى قوارير المياه، لدراسة حال الإنسان حال عدم وجود أية محفزات خارجية.

يظهر في الفيديو جليًا الساعات الأولى تمر بشكل عادي، حيث يستطيع مايكل القيام بحساب الوقت وإيجاد كل ما في الغرفة محفزًا، فيبدأ بعد القوارير ومربعات الرخام، وبعد مرور الوقت، يفقد العقل اهتمامه بهذه الأشياء ويبدأ في البحث عن أي شيء آخر، وحين يفشل، يلجأ الدماغ إلى النوم حتى يحافظ على استقراره، الساعات الأولى تبين حاجة الدماغ بشدة للمحفزات.
كحال الأطفال، فالأطفال عندما يشعرون بالملل والضجر يبحثون عن متع جديدة واستكشافات مثيرة في المحيط، أو في نفس اللعبة التي كان يلعب بها، وهو ما يساعد الأطفال على النمو ويهبهم القدرة على الاكتشاف والابتكار، لذا فإن اللعبة الجديدة تفقد أهميتها، ويصبح مفتاح السيارة أكثر أهمية للطفل من تلك اللعبة.

عند الشعور بالملل، فإن أنشطة الدماغ تقل بنسبة 5% فقط، بينما تنشط في الدماغ الأجزاء الخاصة بالذاكرة الشخصية، وكذلك الخاصة باستيعاب أفكار ومشاعر الآخرين، وأخيرا الأجزاء الخاصة باستحضار الأحداث الافتراضية في الدماغ ( بمعنى آخر الأجزاء الخاصة بالخيال)، ولهذا تجد الشخص يراجع شريط حياته، ويفكر في وضعه وشخصيته، كيف يحسن من نفسه، يراجع علاقاته، ويحاول استعادة المواقف والقصص والأحداث التي عاشها. لكن إذا استمر الشعور بالملل ولم يحصل الدماغ على ما يكفي من محفزات (داخلية أو خارجية)، فإنه يدخل في حالة الهلوسة، والهلوسة هي محاولة الدماغ لاختلاق تصاوير ومحفزات غير موجودة، فتجد الشخص يتحدث مع شخص غير موجود، أو يرى ارواحا أو أشكالًا وشخصيات وهمية.

ولاستيعاب خطورة عدم إعطاء الطفل مساحة من المحفزات، فلنا في قصة جيني ويلي عظة وعبرة، فقد عمد والدها منذ طفولتها إلى  حبسها في غرفة خاوية إلا من سرير وكرسي، بل وعمد الأب على عدم التواصل مع جيني ابدًا وكان يضربها لو أصدرت أي صوت، ولم تكتشف الشرطة وجود هذه الطفلة إلا عندما بلغت سن الثالثة عشر، عانت الطفلة بسبب عدم وجود أي محفزات من توقف أجزاء من الدماغ عن النمو، مما جعلها تعاني من صعوبة في تعلم الكثير من المهارات، بل وكانت لديها سلوكيات مضطربة، كضرب رأسها في الجدار بلا سبب وهو ما يقودنا للفكرة التالية، وهي الألم كمحفز.

في تجربة قام بها علماء بوضع مجموعة من المتطوعين داخل غرفة لا تحوي أي شيء سوى طاولة وبوسطها زر، حال قمت بضغط الزر سيصعقك تيار كهربائي، طلبوا من المتطوعين الانتظار وأخبروهم عن الزر، والكل كان ينظر للزر بريبة، ولم يفكر أحدهم بالضغط عليه، وبعد أن طال وقت انتظارهم، بدأ المتطوعون الضغط على الزر بحثًا عن محفز خارجي عدى التحديق في الغرفة الفارغة التي هم فيها، وكان الشعور بالصعقة أفضل من الشعور بالملل، لذا ربما عمدت جيني للتخلص من الملل وإبقاء عقلها يعمل بشكل صحي إلى ضرب رأسها بالجدار بشكل مستمر.

كما أن انعدام المحفزات يشكل خطورة على الفرد فهو أحد أسباب الاكتئاب، وأحد أهم أسباب تعاطي المخدرات لدى المراهقين، فإن كثرة المحفزات تشكل أيضًا خطورة عليه، فكثرة المحفزات يعني أن عليك التنقل بين المهام والأشياء والأفكار بشكل متواصل ومستمر، وفي كل مرة تنقل انتباهك، فإن المخ يعمد إلى تغيير الوصلات الكيميائية داخل دماغك مستهلكًا كمية من الجلكوز في هذه القفزات. تشير الاحصائيات إلى أن متوسط تحويل انتباهنا من مهمة إلى أخرى هو مرة كل 45 ثانية، وأن متوسط تفقدنا للبريد هو 74 مرة كل يوم، وأخيرًا فإن معدل تنقلنا بين المهام هو 566 مرة خلال اليوم!

في تصويت للمتابعين في تويتر عن معدل الشعور بالملل، فإن ما يقارب 13% من المصوتين لا يراودهم الشعور بالملل إطلاقًا، وهو يعني أنهم منشغلين دائمًا، إما باستخدام التكنلوجيا أو مهام أخرى متنوعة يتنقلون بينها، بينما ما يقارب 50% يشعر بالملل أكثر من 6 مرات شهريًا، وهو ما يعكس أن الأغلبية العظمى يشعرون بالملل بمستويات مختلفة بالطبع، ولكن الإشكالية ليست في الشعور به ولا اختلاف مستوياته، بقدر كيف يستغل هؤلاء هذه المشاعر للمضي قدمًا وتحسين أنفسهم ومستقبلهم.

يقال الحاجة أم الاختراع، يتوقف الإنسان عن الاختراع حين لا يحتاج لذلك، فإن لم يشعر الإنسان بالملل، فكيف سيخلق شيئًا جديدًا للتسلية، إن لم يحتاج لأن يقف مع أفكاره وقفة جادة ليراجعها، كيف سيتأكد منها أو من خطأها، كيف يمكن أن يرى وضعه ويحسنه، وكيف سيفكر في مستقبل وهو منشغل بحاضره واللحظة التي يقضيها في زمن بات فيه من السهل الحصول على زر يبعد عنا الشعور بالملل، ولا يسبب أي صعقة كهربائية زر التحكم بالتلفاز، زر الفأرة وزر الهاتف، هذه الأزرار تخرجنا من الملل، إلى عوالم مستمرة من التسلية التي لا تنتهي، ولكن لا نعلم أبدًا أننا بهذه الطريقة نقتل أهم احتياجاتنا البشرية، حاجتنا للبقاء مع أفكارنا

إن حجم الترفية الكبير الذي وفره هذا العصر، حرمنا وأطفالنا القدرة على اختلاق الأفكار والإبداعات، لهذا قبل أن تشتم الملل وتبعده عن أطفالك وكأنه شبح عن طريق ألعاب الفيديو والألواح الذكية (التابلت) والتلفاز، تذكر أنك تقتل شيئًا قبل مولده، وقبل أن تخرج هاتفك أثناء نزهتك تذكر المشهد الملهم الذي أمامك، والذي تركته آلاف المرات دون أن يخرجك من الداخل أو يدخل إليك من الخارج، لأن الملل جميل ونبيل، يقول الفيلسوف الإيطالي جاكومو ليوباردي في نص رسالته لوالده: الملل من أسمى المشاعر الإنسانية إطلاقًا، فهو يعكس حقيقة أن روح الإنسان بمعنى ما أكبر من الكون برمته، الملل تعبير عن يأس عميق، وعدم العثور على أي شيء يمكن أن يشبع حاجات الروح غير المحدودة.

ملاك عاهر

60710907_10157057845415446_1707793741235879936_o

أخذ يرتدي ثيابه ويمسح بلله وعرقه وهو يقول: ما سبب هذا الأثر على يدك، نظرت إلى يدها وبامتعاض شديد أجابت: تشاجرت مع زبون حقير هذا المساء، قرر أن يسرقني وحاولت منعه ولكنه هرب وقد حاول سرقة ما كان في حقيبتي. وباهتمام مصطنع سألها: ما الذي دعاك لعمل كهذا. أدخلت النقود في حقيبتها وهي تقول: من أجل هذا طبعًا! عقب قائلًا: ألم تجدي عملًا شريفًا؟ فأجابته: كلا، أعمل عملًا شريفًا كما تسميه، ولكنه لا يكفي حاجتي، فأنا مصففة شعر بالنهار وبالكاد يكفيني أن أدفع اجار الشقة. اخرج محفظة من بدلته بعد أن لف جزءًا من ربطة عنقه، ودون أن ينظر للمبلغ الذي سحبه منها، ألقى به أمامها بينما تهم هي بارتداء ثيابها وقد أردف يقول: لقد اشفقت عليك وعلى حالك، تستحقين هذه الزيادة في أجرتك. نظرت إلى الورقة النقدية التي استقرت بقرب قدميها الحافيتين، كانت من فئة العشرين دولارً، ارتد بصرها نحوه وقالت: شكرًا، لا آخذ صدقة من أحد.

انفلتت من بين أسنانه الصفراء ضحكة مستهزئة، ثم اخرج مزيدا من النقود وألقاها ثم قال: هذه لأنك جعلتني أضحك. وبانفعال شديد ركلت النقود وهي تقول: خذ نقودك، أنت المثير للشفقة، تظن أنك تستطيع أن تشتري كل شيء بالمال، ومثير للشفقة لأنك تتخفى من الناس لتأتي إلى هنا كالجرذان، تفتش عن سلطتك التي أضعتها ورجولتك التي سلبها العمر منك، بالكاد شعرت بك.

ألم به الغضب فأقترب منها مسرعا وامسك بعنقها وهو يقول: انظري إلى نفسك جيدًا في المرآة، لا أحد يرغب بك للأبد، أنتِ مجرد نزوة عابرة، لم تعيشي حياة طبيعية، انظري إلى الحظيرة التي تسكنينها، ظننت حين أرسلت لي صورًا لك أنك التقطتها في مكب نفايات، ولكن يبدو أن هذا هو سكنك، لم تتزوجي وقد تجاوزت الثلاثين، ولن تحلمي بذلك، لن تصبحي أمًا وسيلفظك المجتمع كأي شيء حقير.

نفضت يده وهي تصرخ ابتعد عني، وأكملت بصوت مرتبك وبنبرة يشوبها الغضب والخوف: أنت وأمثالك من جعل العالم يطأنا بكلتا قدميه، واستجمعت صوتها وابتلعت ريقها وأكملت: أوجدتم الفقر واختلقتم الفقراء، جعلتم من الصعب علينا نحن الضعفاء أن نعيش حياة طبيعية، بات علي كل يوم أن أواجه قذرًا مثلك ما كان ليحلم بأن تمسك بيده فتاة لولا حاجتها لما يملك من مال، أنت وأمثالك تأتون إلينا بحثًا عن شيء صادق، فمن الخاتم البراق الذي ترتديه يمكنني أن أفهم أنك حديث العهد بزوجة جديدة، وتخشى في قرارة نفسك أن هذه الزوجة لم تقبل بك إلا من أجل مالك، ونحن الحقيقة الوحيدة التي تثق بإلمامك بها، فنحن نهبك خدماتنا من أجل المال، ونعترف بذلك، ولهذا تلجأ إلينا. ثم انظر من يتحدث عن العمل الشريف، على أقل تقدير فإنني أعمل بجد وأحفظ الدين وألزم وعودي وأعطي المحتاجين ولا أغش أحدًا، بل وأدعو الرب أن يرزقني كفاية هذه النتانة، نتانة أن أقابل شخصًا مثلك، يستغل الضعفاء، ويغنى على حساب شقائهم.

وقبل أن تكمل ثرثرتها، كان قد امسك عنقها وأخذ يخنقها بغضب جم، وهو يقول: اصمتي أيتها العاهرة وأعلمي قدرك ومع من تتحدثين. وبينما هي تحاول التخلص منه والاستغاثة، لم يستطع أن يواصل خنقها فأفلتها، لتفقد هي توازنها ويرتطم رأسها بحافة السرير، دنى منها وركلها وهو يقول: انهضي، وحين لم تحرك ساكنا، شعر بالقلق، فدنى منها يهز جسدها العاري، ليتحسس نبضها، كان قد توقف كل شيء، وبدأ القرمزي يسيل من بين خصلات شعرها الليلي، نهض مرتعبا وشد ربطة عنقها ودلف مسرعًا في ممرات المبنى يبحث عن مخرجها.

وصل إلى المخرج، اسرع الخطى بين الأزقة والسماء تمطر، القرمزي يرسم جناحين لتحلق بهما روحها، هاتفان يتبادلان اللحن، في شاشة أحدهما “زوجتي وفاء” وفي الأخرى “الأميرة الصغيرة أختي” بينم يلقي الليل بعتمته على المشهد

ليلةٌ سُرِقَ القمر فيها

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

وعاد مُصغيا لــ بُكاء السماء

هدوء وسكون في ليلة سرق نصف قمرها، استيقظت على صوت ارتطام المياه بالسقف؛ فأيقنت ان السماء تمطر، لقد كنت في سبات عميق احلم بها ولكن المطر لم يرحم حلمي؛ فقتله قبل أن يكمل عمرـ ستسألني ..وهل للحلم عمر؟!! ولكن هذا سؤال تجيبه بنفسك

 في كل يوم تخرج من باب منزلها متجهة إلى السوق  أتابعها من خلف نافذتي وانتظر في الظهيرة عودتها رغم أنها تعود متعبة ووجهها محمر من شدة الحر لكنها تبقى جميلة…

لم أكن اعرف سبب ترددها على السوق لكن  الأيام كشفت لي حقيقة أنها  تعمل لتعيل أهلها ؛ فهي تبيع ما يصنع والديها  وما يجمعه إخوتها من حطب….أصبحت من المترددين عليها ولكن تبقى نظرتها نحوي (مجرد مشترٍ). امتلأت الخزانة بما اشتريه منها وكلما مررت بها أقول لنفسي علَّ قلبها يحن ويرق من اجلي، إلى أن جاءت أمي وقالت كفاك أفلستنا بهذه الأغراض.

قَطَعتُ ذكرياتي القريبة ونهضت من فراشي وتوجهت ناحية نافذتي  تركتُ بصمات أصابعي على خد النافذة   ثم صعدت إلى العلية لأصلح ما أفسده المطر؛ فلفت انتباهي انفتاح مصراع باب منزلها   هاهي تخرج دون مظلة، تمنيت أن أسير بقربها واضعاً كفاي فوق رأسها كي لا تلمسها قطرات المطر   ما أن خرجت حتى بلل المطر شعرها الداكن   أخذت قطرات المطر تداعب خدها كي تستفزني   وددت لو المس خدها المخملي الذي يُكَسر قطرات المطر ويحولها إلى أجزاء صغير   حينها خطر ببالي أن انزل فأجمع تلك الأجزاء المتساقطة من على خدها؛ ولكنها فكرة أغبى من صاحبها خدها المحمر والمليء بقطرات المطر يشبه تفاحة أصابها ندى الصباح، بالقرب من ثغرها نصبت شامة  زادت من جمالها عبرت الطريق…عادت وأغلقت الباب وراءها وأغلقت أنا عيني.

كل يوم يخطفه الزمان من عمري اشعر بأنه بلا طعم انتظر فقط نظرة منها علَّ هذه النظرة تحقنني مخدراً في وريدي فلا اشعر بجروح الدنيا وآلامها، ما لهذه الأيام تمضي بسرعة فيمضي بنا الزمان فأراني كبرت وبدأ موسم البياض على محصول شعري خطوات حنينه حملت امرأة كبيرة في السن : بني.. لماذا تطاردها،واجه حقيقتك إن كانت تريدك للمحت لك  لذا خلص نفسك  تردد صدى كلمات أمي  خلص نفسك؛ وكأن أمي تخيط جرحي دون مخدر نزلت فخلدت للنوم  ليلة سُرق القمر فيها عدت لأحلم…ولكن في إحدى الأيام التي كنت احلم فيها.

استيقظت، ودون وعي مني توجهت بي قدمي نحو النافذة، وقلبي يخفق بشدة يكاد أن يمزق صدري، حاولت فتح النافذة ولكن أمي أحكمت إغلاقها دون أن اعرف سبب لذلك هرعت إلى العلية؛ فوجدت أن القمر قد سُرق، والظلام يسود المكان، لكن لحظة عجباً أناس يحتفلون ،والقمر مسروق!!  سرت بخطى متثاقلة جداً وأخذت انظر، لحظة، أناس مجتمعين بكل ألوان الطيف، زغاريد عالية، ومصابيح اتخذت كل ألوان الفرح والسعادة  بدله سوداء لا اعرف صاحبها وفستان ابيض لفاتنــــ…. غصة ابتلعت صوتي، إنها هي إنها هي!!  ياااااه… ألم يكن بيننا وعد وميثاق! تباً كان ذلك في حلمي.. ياااه ماذا عساي أن افعل كيف لي أن أعيش بدونها،  دون أن انظر إليها   تباً يا لي من أحمق؛ ليتني جمعت تلك القطرات ووضعتها في قنينة واحتفظت بها، تباً لي. بدأت ابكي  ولم املك شيئاً سوى العودة لاحتضان وسادتي واحتضان أحلام.

مضت بي الأيام  وأخذت ما في خزانتي وقصدت السوق ادعيت أنني أبيع هذه الأشياء، لكنني كنت انتظر عودتها أو مرورها ولو لمرة واحدة بي، تكفي لتسعف جروحي. بعد مضي شهور وأنا افترش الطريق، جاءتني طفلة وقالت بصوت بريء عمي تفضل بعض النقود، رفعت رأسي مبتسماً ولكنني رأيت فيها شيء اذكره، فإذا بها آتية، أبعدت الطفلة عني  وألقت ببعض النقود بقربي  وانصرفت  وعادت السماء لتمطر من جديد !

سبتمبر 2009

وهم الكارما !

karma

إن الاعتقاد بالكارما، جاء من باب العدالة شبه المعدومة في الدنيا كنوع من اراحة النفس من عبء الشعور السيء الذي يثقل كاهل البشر الواقعين تحت نار شرور البشر، الرازحين تحت صخرة الظلم، فالمظلوم أحيانا لا يملك يد حديدية يقتص بها لنفسه أو لمن يحب، فيعول على العدل الدنيوي، وبأن الدنيا ستأخذ حقه قبل يوم الدينونة. فهو أمل وإن كان زائفًا، إلا أنه أفضل من مواجهة الواقع المرير.

نحن ومهما حاولنا استرداد حقوقنا بالنص القانوني، نجد أننا لا نشعر بالعدل التام، ليس لضعف القانون، ولكن لغياب الاقتصاص المرضي والعادل حسب مشاعرنا الفردية، فما يراه القانون عدلا تاما تجاه قضية، يجده الضحية غالبا غير منصف، لذلك لا بدّ من عدل مطلق عاقل يسترد حقك مستنسخا كما تم سلبه منك.

وسميت تلك في ثقافات متعددة بالكارما، فعل الدوران، كما تدين تدان، والحوبة، والدنيا دوارة. نحن اوجدنا هذا العدل العاقل من رحم الدنيا وقانون ليس كقوانين الطبيعة العشوائية، انما قانون بالغ العقلانية متحكم ومنتبه ومصمم وكأنه إله أو ملاك كريم.

مفهوم العدالة مفهوم واسع جدا، وقد يكون العدل أحيانا ظلم لآخر، أو آخرين، كميزان العدل في التصويت، فهو يضحي برغبة ٤٩٪ من أجل اغلبية ال ٥١٪، ولهذا قد يكون العدل في شخص هو ظلم لآخر. خذ على سبيل المثال لو أن أحدهم قتل ابن شخص ما، ثم دارت الدوائر وقتل ابن القاتل، فمن وجهة نظرنا فٱن العدالة تمت، بينما هنالك اساسا قاتلان ومقتولان، وليس قاتل ومقتول وقصاص. وهي المعادلة الأحق. لذا فإن الاعتقاد بالكارما اعتقاد بعدالة ذاتية شخصية منبثقة من رغباتنا الخاصة وليس عدالة عاقلة بحد ذاتها.

يجب الاقتناع بأن العدالة غير موجودة محررة في الطبيعة ومتحكمة و تسير بذاتها، بل نحن اوجدنا عبر المؤسسات والحضارة قوانين؛ تضمن اقل وأبسط جزء من العدالة يمكن تحقيقه في هذا الكون، وعلينا أن نقبل ونرضى بانعدام العدالة، وإن العدالة ليست موجودة إلا عند الله العدل الحكم.

الإنسان يملك قدرة عظيمة على ربط الأمور، عظيمة جدا تفوق حتى قدرته على ادراكها، لو أن شخصا عاير أحدهم، وبعد فترة تلبسه ما كان يعاير به الآخرين، فإننا ومباشرة سنقول أنه بسبب معايرته أصيب بها، والأمر لا يتجاوز كونه صدفة قابلت قدرا، فالصدفة أنه تحدث، والقدر أنه كتب عليه ذلك مسبقا، ولو أنه لم يتحدث، لما القى أحدهم بالا له. وقس ذلك على كل ظنونك وامانيك. وحدثني، كم مرة التقت الصدف بالاقدار!

ما الذي يحدث هنا إذا!

غالبا يقال: وقع في شر اعماله، أو حفر حفرة لأخيه ووقع فيه. فإن الإنسان ومن فطرته حب الخير، وينازعه الشر بقدر ما تم تغذيته بخير بشكل عكسي، كلما زاد الخير فيه قلت منازعة الشر له. لذا وحين يصنع أحدهم شرا بأحد، يحمله دافع الغضب والانتقام، والذي يعميه غالبا عن الصواب والمنطق، فتجده يصنع الضرر دون أن ينظر للطريق، للشخص، وللمكان.

مثلا، شخص دخل شارعا دون أن يبالي بالسيارات لأنه مستعجل وتسبب في ارباك حركة السير بتهوره، ولأنه مستعجل جدا، ويسير بسرعة وفي ذات الطريق يخرج أحدهم إلى الشارع فيلتقي به، ويسبب له حالة الارباك نفسها التي سببها للآخرين. لو لم يكن مسرعا، لخرج الآخر دون أن يزعجه أو يتسبب بتعطله، ولأن عقل الإنسان يحب الربط بل ويعشقه، فهو بطبيعة الحال سيربط بين تصرفه وتصرف الذي خرج أمامه فجأة، فيشعر أن هنالك رابط حقيقي.

وقس على ذلك كل تصرفاتنا البشرية، لذا، الشر يتسبب في توترنا، لأننا غير راضيين عنه، او منفعلين به، ولذا نقع في شرورنا. السارق كلما مارس السرقة زادت احتمالية الامساك به، القاتل، كلما زاد قتله واجرامه، كلما زادت احتمالية وقوعه ضحية البيئة التي يعيشها، رجل المافيا، تاجر المخدرات، وكل مجرم يبقى ضحية البيئة التي القى نفسه فيها، ولا ننسى أهم قضية وهي إرادة المجتمع، فالمجتمع يرغب في خلق العدالة وصناعتها، ولهذا تجد الإنسان ينتقم من صاحب الفعل والظلم بالقدر الذي يمكنه فعله، ويقع المجرم في انعكاس شره، وهو هذه الإرادة العظيمة لدى المجتمع في استرداد الحقوق.

لو أنك لم تسخر من شخص بشكل علني، لما ربط الناس بين ما اصابك وبين ما سخرت منه، وبين من أنكر عليك وبين من تنمرت عليهم. الكارما ليست سوى قدرتنا على الربط الذي يعيد لنا الطمأنينة التي نحتاجها.

اذا، أين الملجأ !

الملجأ هو تطور وعي الإنسان وإدراكه لسن القوانين التي تضمن له عدالة مجمع عليها تضمن عدم وقوعه في الظلم حتى ينتظر عدالة دنيوية أخرى، حتى لا يحتاج لتلبس حالة الانتقام والكراهية، وما هو أهم منه هو الإيمان بأن الله عادل سيأخذ حقنا بالشكل الذي ليس إلا عدالة مطلقة في حكمه وكتابه ولا عدل أعلى من عدل الله يوم يعدل بين الخلق.

أدب الندم !

28378785_10155999177400446_660591033870003216_n

الندم، شعور يقتحم الإنسان حين ينظر لما افتعله وأوجده من اشكالية حلت به وسلبت منه احساسه بالراحة تجاه قراره أو قراراته، خليط من الحزن والكآبة والأسى والقهر والألم، هذه الحالة التي تمر بك، بعد أن تكتشف أن خياراتك لم تكن موفقة تجاه شيء ما. هو شعور لا يحتاج لمدة زمنية، قد يكون شيء لحظي، فور اقتناءك لشيء أو بيعك له، فور زواجك أو بعد طلاقك بسنوات.

يتعاظم شعورنا بالندم حسب الخسارة التي حلت بنا، وقد يرتبط الأمر برأي الناس أحيانا، تكون سعيدا بخيار ما، فتحل عليك لعنة الآراء التي لم تطلبها اصلا، بشع، صغير، باهظ، رخيص.

شعورك بالندم على تفويت الموعد ببضع دقائق أكبر منه عند تأخرك عنه بما يزيد عن ساعة، لأنك ترسم كل الاحتمالات التي كادت أن تمنحك تلك الدقائق المطلوبة. وكلما زادت احتمالات انقاذك للموقف، كلما تعاظم شعورك بالندم.

حين يراودنا شعور الندم، نود العودة بالزمن لتصحيح أو تغيير خياراتنا، صحيح أن ذلك غير وارد، ولكن لو عدنا، فإننا لن نغير شيئا، فنحن نتعلم من ندمنا الدرس الذي يجعلنا نعتقد بأن خيارنا الآخر أكثر صوابا، فإن عدنا بالزمن، وإن افترضنا أننا غيرنا خيارانا، فإن شعورنا بالندم من الخيار الأول سيتلاشى من ذاكرتنا، وتجربتنا ستكون وكأنها لم تمر بنا اصلا، وعندما نعود للحاضر، سنتمنى العودة بالزمن لتغيير خيارنا لاعتقادنا أن الخيار الآخر هو الأفضل لمستقبلنا، وهذه هي متناقضة الخيار الآخر.

لا يمكنك التخلص من الشعور بالندم أبدا، وهذا ما لخصه الفيلسوف سورين كيركيقارد في كتابه: اما/أو: تزوج وستندم، لا تتزوج وستندم ايضا، تزوج أو لا تتزوج ستندم في كلا الحالتين، صدق زوجتك وستندم، لا تصدق زوجتك وستندم أيضًا، صدقها أو لا تصدقها، ستندم في كل الحالات. ولأننا نظن أن الضفة الأخرى من النهر دائما أكثر اخضرارا، لهذا نندم.

في تصويت على تويتر قمت به، كان ندم الناس على العلاقات والصداقات والخيار الأكاديمي أكبر من التربية والوظيفة، ليس لأنهما أقل أهمية بالطبع، بل لأننا لا نرى نتائجها بسرعة كما يحدث مع العلاقات والمجال الدراسي، فالتربية كمثال لا نرى نتائجها إلا بعد عقود أو سنوات عديدة من الزمن، وكذلك خيار الوظيفة، وذلك لأننا نتعلم أخطائنا من نتائجها وحسب.

نحن نستطيع النظر للماضي، ولكن لا يمكننا استشراف المستقبل، وهذا ما يجعل من المستحيل أن نصنع خيارات لا نندم عليها، ولأنه أيضًا لا يوجد قرارات مطلقة الصواب. لهذا حاول أن تأخذ الدرس وتتعلم منه كيف تتعامل مع مواقف مشابهة بحذر أكبر وتفكير أكثر عمقًا، حتى يقل شعورك بالندم على خياراتك القادمة، لأنك دائما ستخطئ التقدير. وكلما ازدادت معرفتك وتعمقت تجربتك زاد احتمال شعورك بالندم، لأننا لا نندم، إلا حين نتعلم.